عن تجديد الفكر الديني

  • 5/22/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أعترف للقارئ أنني كلما وجدت مقالاً بعنوان «تجديد الفكر الديني» أو بعنوان قريب من ذلك، لا أشعر بدافع قوي لقراءته، لأني راضٍ عن حالة الفكر الديني السائد حالياً في مصر، ولكن لأني لا أظن أن الإصلاح يأتي عن مثل هذا الطريق، وكأن الاختلافات بين الناس ومواقفهم، يتم حسمها عن طريق صراع فكر بفكر، أو كلام بكلام، مع تجاهل العوامل التي سببت المشكلة في الأصل. أعترف أنني ليس لدى ثقة كبيرة في جدوى المواعظ بصفة عامة، في تغيير السلوك الإنسان. قد يبدو أحياناً أن للمواعظ مثل هذا الأثر، وقد يتظاهر الجالسون للاستماع للمواعظ اقتناعهم وبعزمهم على العمل بها، ولكن سرعان ما نكتشف استمرار سلوكهم على ما كان عليه، طالما أن الموعظة لم تقترن بعوامل أخرى تؤدي إلى التغيير المنشود. وتفسير ذلك فيما أظن أن عقل الإنسان ليس المحرك الرئيسي للسلوك في معظم الأحوال، بل يتحرك الإنسان مدفوعاً بعواطفه ورغباته وطموحاته، قد يستخدم الحجج المنطقية لتفسير التغير في سلوكه، ولكن هذه الحجج ليست في عظم الأحوال إلا زوائد غير ضرورية تقدم لتبرير ما انعقد عليه العزم لأسباب ضعيفة الصلة بالمنطق. يجب أن نعترف أن الفكر الديني ليس استثناءً من ذلك، أي أن الذي يحكمه ليس المنطق المجرد بل ميول الإنسان واستعداده النفسي، فإذا كان الأمر كذلك فإن تغيير الفكر الديني، أو ما يسمى تجديده، لا يكون بتقديم الحجج المضادة للحجج السائدة بل بتغيير الميول والاستعداد النفسي. نحن بالطبع نريد فكراً دينياً متسامحاً يبث الرحمة في القلوب والإشفاق على الضعفاء والفقراء، وليس فكراً مولداً للقسوة أو العداوة، فما هي يا ترى تلك الظروف الاجتماعية والنفسية التي يمكن أن تؤدي إلى وجود هذه العواطف والمواقف الإنسانية؟ لابد من أجل الإجابة عن هذا السؤال أن نستعين بالتاريخ. لقد عرف تاريخ الإنسانية حقباً توفرت فيها ظروف مساعدة على نمو هذه العواطف المرجوة وحقباً أخرى انتشرت فيها المواقف العكسية بالضبط. ومقارنة أحوال الشعوب في مختلف الدول اليوم تساعد أيضاً على اكتشاف الإجابة المطلوبة. الديمقراطية عامل مساعد دائماً - شرط أن تكون ديمقراطية وليس مجرد الاسم -، وتطبيق قدر معقول من عدالة توزيع الداخل بين أفراد الأمة عامل مساعد أيضاً، ونمو الثروة والدخل في الدولة ككل يساعد أيضاً على الوصول إلى هذه النتيجة المرجوة بشرط أن يكون هذا النمو بسرعة معقولة لا تزيد الطموحات بأكثر مما ينبغي فلا تشتد معها المنافسة بين الناس فتقوى روح الجشع والأنانية. إن الركود الاقتصادي قد يكون عاملاً مساعداً على انتشار التسامح، والحراك الاجتماعي السريع قد يؤدي إلى عكسه ولكننا لحسن الحظ لا نحتاج إلى ركود اقتصادي تام للوصول إلى هذه النتيجة، فالحراك الاجتماعي إذا تم في حدود معقولة يمكن أن تقترن به درجة عالية من التضامن والانسجام الاجتماعي، ولكن لابد أن نلاحظ أيضاً أن معدل السرعة التي يجري بها الحراك الاجتماعي قد يكون أقل أهمية من طبيعة العوامل التي تؤدي إلى هذا الحراك. هل حدث الحراك الاجتماعي بسبب انتشار التعليم مثلاً، أم بسبب نمو التجارة؟ هل صعود الناس على السلم الاجتماعي أو هبوطهم حدث لأسباب مشروعة وأخلاقية أم بسبب الفساد؟ إذا اتخذنا حالة مصر مثالاً، نجد أنها شهدت في النصف الأول من القرن العشرين ظروفاً اقتصادية واجتماعية مختلفة جداً عما شهدته في النصف الثاني، لم تتقدم مصر اقتصادياً بسرعة خلال النصف الأول، ولم تتخذ فيه إجراءات مهمة للتقريب بين الطبقات، ولكننا نلاحظ أن درجة التسامح إزاء الأقليات كانت أعلى مما عرفته مصر في النصف الثاني من القرن. لا أظن أن هذه الملاحظة تنطبق على عقدي الخمسينيات والستينيات، إذ كانت حالة مصر من حيث التسامح الديني أفضل مما أصبحت بعد ذلك، ومن السهل، فيما أظن أن نجد تفسيراً لذلك في التغير الذي طرأ على الحراك الاجتماعي. لقد استند الحراك الاجتماعي خلال الخمسينيات والستينيات إلى عوامل أقل إثارة للطمع والجشع مما حدث بعد ذلك، حدث خلال هذين العقدين انتشار سريع وواسع للتعليم المجاني والخدمات الصحية، كما صدرت قوانين أدت إلى إعادة توزيع الدخل والتخفيف من حدة الفوارق الطبقية بدرجة ملموسة، أهمها قانون الإصلاح الزراعي، مما لم تعرفه العقول التالية. كان الحراك الاجتماعي الذي شهدته مصر خلال السبعينيات والثمانينيات يستند في الأساس إلى الهجرة إلى دول أكثر ثراءً، وهو عامل يتطلب درجة من الكفاءة وروح المغامرة. الأمر في رأيي يتلخص في أن تغير الأفكار تابع لتغير الأحوال المعيشية أكثر من العكس، ومن ثم فمهما أنفقنا من جهد لتغيير أفكار الناس فلن ننجح حتى نغير هذه الأحوال المعيشية.

مشاركة :