الصهيونية وآليات النحر الأخلاقي بقلم: سعد القرش

  • 5/23/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ميزان القوى الدولية لا يعد بنهاية قريبة لإسرائيل، ولكن النحر الأخلاقي للأساطير المؤسسة للدولة، يعني الكثير؛ فإسرائيل تزعجها قصيدة لمحمود درويش، وبيان في مؤتمر مناهضة العنصرية في جنوب أفريقيا يعتبرها نظاما عنصريا.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/05/23، العدد: 10641، ص(9)] قبل أن تكون فلسطين قضية أرض ولاجئين منذ إعلان الكيان العسكري الاستعماري في فلسطين ستظل قضية أخلاقية. الموقف منها يصنّفك، يضعك في هذه المنزلة أو تلك الهاوية، ولا مسافة بينهما لتوازنات وحساب لأرباح أو خسائر. لا يتأخر الحكم لكي يشهد به التاريخ، بل يصدر مباشرة ولا يكون الشعور الفطري للشعوب إلا صادقا. مات جمال عبدالناصر مهزوما في حرب خاسرة فقدنا فيها سيناء وغزة والضفة والقدس الشرقية والجولان، وقتل أنور السادات الذي أعاد سيناء. ويكفي أن تقارن بين الجنازتين، وكيف اصطفى الزمن عبدالناصر وخلصه من أخطائه، وجعل من صورته رمزا لأشواق الشعب إلى ما توقعه من الزعيم وأخفق فيه، وكيف صار السادات رمزا للتبعية والخذلان وتفريط يراه البعض خيانة. الموقف من إسرائيل يتعدى القادة إلى غيرهم. كان عبدالوهاب المسيري مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات الإستراتيجية في مؤسسة الأهرام، وفي عام 1975 سافر إلى نيويورك مستشارا ثقافيا للوفد الدائم للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة، ثم عاد عام 1979 في ظل سيادة أجواء التطبيع وكتب في سيرته “رحلتي الفكرية” أنه لم يسترد مكانه في مركز الدراسات، بل قال له السيد يسين مدير المركز إن رجوعه يعني الانتحار، “فكان ردي عليه أن الحياة حسب الشروط المهينة التي قد يضعها الآخرون ليست أمرا عظيما.. وقد يكون الانتحار هو أحسن اختيار. والانتحار في هذه الحالة ليس انتحارا وإنما هو استشهاد في سبيل رسالة… كنت أجد صعوبة في دخول مبنى الأهرام”. وبدأ المذيعون الذين كانوا يستضيفون المسيري دائما في برامجهم يتجنبون الحديث معه خوفا. ماذا بقي من السيد يسين ومن المسيري؟ سأحتكم إلى الذاكرة البصرية؛ فصورة واحدة تلخص سيرة. لم يتوقع المصور الكوبي ألبرتو كوردا أن صورة فوتوغرافية التقطها لتشي جيفارا بالبيريه الأسود في جنازة بهافانا عام 1960 ستطوف العالم، أيقونة عابرة للأجيال والثقافات. عكف المسيري 25 عاما على مشروع حياته، موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية”، وفي أكتوبر 2006 أخبرني بشروعه في موسوعة “الصهيونية وإسرائيل” لدراسة الكيان الصهيوني ميدانيا بمشاركة باحثين فلسطينيين في الأرض المحتلة. ومع هذا المشروع الفكري أقام المسيري جسورا مع الشارع، مختبرا النظري بالحركي. المثقف موقف، وهو أكبر من الساسة والسياسة، فلا يليق به تسويغ موقف سياسي أو امتداح حاكم على قيد الحياة ولو كان نبيا رسولا. وكان السيد يسين مؤهلا بحكم الوعي والخبرة المنهجية لدور الناقد الثقافي، واختار طريقا يراوح بين المعرفي ومغازلة السياسي. وإذا قدم المثقف تنازلا في مرحلة يتحول إلى حِرَفي، يمتلك بضاعة تصادف أنها المعرفة، ولها رواج لدى سلالات من الساسة، يقتل السادات فلا يراجع المثقف الحرفي نفسه، ويستعد لتقديم بضاعته إلى مبارك، والبعض من هؤلاء طاف بالبضاعة نفسها على محمد مرسي وعبدالفتاح السيسي. لا أحد يطالب المثقف بأن يكون شهيدا، يكفي ألا يكون نموذجا للهزيمة أمام سلطة أو فكرة، وما الصهيونية إلا فكرة قبل أن تبحث القوى الإمبريالية عن وسائل تنفيذها في أرض فلسطين؛ لإجهاض أي مشروع للاستقلال في العالم العربي. ومن مظاهر هزيمة العقل ألا نراهن على المستقبل في تفكيك المشروع الصهيوني، قانعين بمعطيات ليست نهاية للتاريخ. وفي لحظة ارتباك قرر كاتب مسرحي مصري أن يذهب إلى إسرائيل، عام 1993 بعد اتفاقية أوسلو، بحجة أنه يريد أن يرى إسرائيل بعينيه، فهل يرى زائر معسكر إلا ما يريد له الجنرال أن يراه؟ وكأن حرمان شعب من حقه في العودة ومصادرة أرضه والاستيلاء على دولته لا تكفي دلالة على أن هناك مشروعا يجسد أعتى تمثيلات الإمبريالية، وما جيش إسرائيل إلا ذراع عسكرية. الكاتب الذي عاش بقية عمره منبوذا إلى أن توفي اقترح بسذاجة على وزيرة الثقافة الإسرائيلية شولاميت ألوني أن يعمم على الأطفال “في المنطقة بعد أن يسود السلام.. أن لا أحد منهم أفضل من الآخر.. أن هناك إلها واحدا للجميع”. في قضية التعليم العنصري أستحضر دراسات وشهادات، منها كتابان للباحثة المصرية صفا عبدالعال “تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية” و“التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل”، أما سعد مرتضى أول سفير مصري في تل أبيب، فسجل في كتابه “مهمتي في تل أبيب” الكثير مما نعرفه ويعرفه الكاتب المسرحي عن أن إسرائيل جيش قتالي بغطاء بشري، وأن “كل فرد في إسرائيل تقريبا يجيد استخدام السلاح”، وأن كل “مدني” يستدعى سنويا للجيش شهرا أو شهرين، “حتى تحافظ إسرائيل على المستوى القتالي العالي لقواتها. ويحتفظ كل جندي- حتى الاحتياطي- بسلاحه وبملابس الميدان حتى يكون مستعدا لتلبية نداء الجيش”. ميزان القوى الدولية لا يعد بنهاية قريبة لإسرائيل، ولكن النحر الأخـلاقي في الأساطير المؤسسة للدولة، وللممارسات غير الإنسانية، يعني الكثير؛ فإسرائيل تزعجها قصيدة لمحمود درويش، وبيان في مؤتمر منـاهضة العنصرية في دربان بجنوب أفريقيا (2001) يعتبرها نظاما عنصريا. هذا النحر مطلوب لنزع القناع الإنساني عن آخر استعمار في العالم يحتل دولة بالكامل. وستعود دولة فلسطين حين يتأكد لرعاة إسرائيل أن ثمن بقـاء إسرائيل أكثر تكلفـة من قيام دولة علمانية بعد تفكيك الأيديولوجية الصهيونية. روائي مصريسعد القرش

مشاركة :