تنتهي سنوات الجامعة وتعود عائشة الى بلدتها الصغيرة الواقعة على اطراف مراكش، لم تنتشِ الشابة العشرينية بانتصار الشهادة وتخرج من جامعة "القاضي عياض" بمراكش، خاصة بعدما فشلت في ايجاد وظيفة تغنيها عن مد يدها لعائلتها. ملت من نسخ طلبات العمل وتكبد عناء السفر من البلدة الى المدينة باحثة عن فرصة ترد لها الاعتبار بين اهلها، بعدما باعت والدتها ما بحوزتها من حلي لكي تتابع دراستها...الابواب الموصدة دونها وندرة الفرص جعلت من عائشة تعود الى البلدة وترضى بواقعها. أدركت أن شهادة الاجازة في القانون لن تتيح لها فرصة العمل لاسيما وأن جامعات في المغرب تصدرُ سنويا مئات الطلبة، يحملون شهاداتهم التي لا تقلل من الهموم ولا تتحول إلى عامل يحقق أحلامهم. انتهى زمن الأحلام وإندثرت الآمال بأن تكون عائشة محامية العائلة، هذا الحلم الذي راود الأم منذ انجابها لطفلتها، حلمت بأن تكون ابنتها محامية يعلو كعبها بين بنات القرية ولا تعيش نفس المصير الذي تؤول اليه شابات القرية. كانت الأم حداثية في تفكيرها برغم من أنها ترعرعت في بيئة متخلفة، استطاعت أن تزرع في ابنتها الطموح. بيد أن طموح عائشة ووالدتها لا يكفي في عصرنا الحالي، اذا أن حتمية الواقع وشراسته تدوس على أحلام البسطاء. بلوغ عائشة الثلاثة والعشرين في مجتمع قروي يعتبر أن العنوسة تبدأ من 19، ونظرات الشفقة التي ترمق بها النساء لهذه الشابة المتخرجة من جامعة القاضي عياض، فقط لأنها لم تتزوج بعد، ما جعلها تشمئز. "مسكينة لم تحصل على وظيفة ولا على زوج يسترها". كانت نساء القرية يتباهين بزواج بناتهن في سن مبكر وانجابهن للأطفال برغم من المشاكل التي تعيش الزوجة مع عائلة زوجها، غير انها ينبغي ان تصبر وان تستمر في الحياة الزوجية، فهي لا تملك خيارا أخر، وهي احسن من عائشة التي كانت تحكي لهن عن عالم الجامعة وكيف أصبحت النساء أستاذات جامعيات يحاضرن بصوت مرتفع ومستقلات ماديا، كانت هذه الحكايات تدفع الشابات الى تعليم بناتهن، لكن ذلك لم يستمر بعد عودة عائشة الى القرية متأبطة بشهادة لا تمكنها من العمل. من شابة حققت احلامها ودرست في أهم الجامعات في المغرب الى عائشة المثال السيئ لفتيات القرية، لأنهن أدركن أنه لا ينبغي أن يضيعن وقتهن في دراسة وأن الخيار الأمثل البحث عن زوج في سن مبكر. لم تعد أم عائشة تتحمل سؤال نساء القرية متى ستتزوج ابنتك، وكيف ستتزوج من "ولد الناس" وهي التي قضت اربع سنوات في غرفة مع الفتيات في الحي الجامعي، وكيف يمكن لنساء القرية أن يثقن فيها ويدخلنها الى منازلهن. كانت الأم المغلوبة تلتزم الصمت لقد كانت تخطط من قبل أن تشتغل ابنتها وتستقل اقتصاديا وتسافر معها الى المدينة، لكنها اليوم ينبغي أن تحمي ابنتها من نظرات رجال القرية المفترسة والأحاديث التي تدور في مجالس النساء عن شرفها. أدركت الأم أن الحل الوحيد هو ايجاد زوج ينهي هذا القيل والقال، لقد كان الأمر صعبا على فتاة درست القانون وحلمت بأن ترتدي سترة المحاماة أن تربط مصيرها بأحد أبناء القرية من درجة الثانية، لأن الدرجة الأولى يشترطون زوجة في سن 16 من عمرها ولم تسافر وحدها الى المدينة بينما عائشة كسرت القواعد. حرقت عائشة كتب القانون وصورها في جامعة القاضي عياض، اتلفت كل شيئا حتى ملابسها العصرية، لكنها فشلت في اقتلاع الذكريات من جدورها. كان شرط الزوج المستقبلي أن تنسى ما درست في الجامعة وأن تفعل ما يأمرها به لأنه لا يريد امرأة تناقش أو تجادل. تزوجت عائشة من أحد دراويش القرية الذي لم تطأ قدماه يوما أعتاب المدرسة، وبرغم من تجردها من ماضيها الى أن ثقافتها كانت تظهر من حين الى أخر ما كان يدفعه الى تعنيفها، كانت تبكي وتنهض من جديد لقضاء اشغال البيت كأي شابة في القرية لم تحلم يوما بدفاع عن النساء المعنفات. الهام الطالبي كاتبة مغربية
مشاركة :