شهية الربح السريع تدوس جمال المعمار في عمانيتطاول هوس الاستثمار في العقارات على خصوصية العمارة في عمان، فالمستثمرون يريدون أن يحولوا العاصمة إلى صناديق عالية متشابهة بلا روح ولا خصوصية، لكنها مدرة للمال لأن المعالم الأثرية وتفاصيل المدينة التي يحبها الزائر وابن البلد لا تعنيهم، لذلك تحتاج البلاد إلى وقفة صارمة للحفاظ على هوية عمان التي تجذب الزوار.العرب سلام الشماع [نُشر في 2017/05/24، العدد: 10642، ص(20)]هوية عمان معركة صامتة تدور رحاها في العاصمة الأردنية بين أمانة عمان الكبرى وبين المستثمرين العقاريين موضوعها الأبنية العمانية القديمة. الأمانة تسعى إلى الحفاظ على تلك الأبنية للإبقاء على هوية المدينة وتراثها، وأصحاب رؤوس الأموال يريدون استثمار المساحات التي تحتلها تلك الأبنية لإقامة أبراج حديثة عالية تدر عليهم أموالا طائلة، وذلك ما تراه الأمانة إضرارا بهوية عمان. وتنهض الأمانة بمشروع للحفاظ على عمان القديمة والأبنية التي لها رمز وتاريخ، لكنه ليس واسعا كمشروع إحياء القاهرة الخديوية في مصر. بيوت خبرة في أمانة عمان الكبرى، يقول رئيس قسم التراث العمراني المهندس فراس الربضي لـ”العرب” إن الدور الذي تنهض به الأمانة هو الحفاظ على التراث العمراني لمدينة عمان، وهو ما يعني الحفاظ على أصالة المدينة وهويتها العمرانية وموروثها الحضاري.من لا يعرف قاع المدينة لا يعرف عمان وتمت الاستعانة لأجل ذلك ببيوت خبرة، بعد أن رصدت المواقع والمباني وفق معايير واضحة، فما بني قبل سنة 1750 يعد آثارا تقع تحت سلطة وزارة السياحة والآثار، وما بني بعد تلك السنة يكون تحت سيطرة البلديات حسب قانون الآثار. ويتابع “نحن نحافظ على المبنى التراثي وعلى النسيج العمراني للمنطقة التي يقع فيها، فهناك من يحاول أن يهدم الأبنية القديمة والأمانة تحارب الهدم العشوائي، ومن حق أي إنسان أن يطور المبنى الذي يسكن فيه، لكن ينبغي أن يأخذ رخصة من الأمانة، وهناك أبنية قديمة نسمح بهدمها ولكن ضمن المعايير المعتمدة، في حين أن أبنية فترة الحداثة في الخمسينات والستينات من القرن 20 يمنع هدمها ويسمح بتطويرها وفق المعايير الموضوعة”. ويشير إلى أن الأمانة حددت 1600 موقع تراثي في عمان تتوزع على مناطق زهران، والعبدلي، ومنطقة المدينة، وبسمان، والنصر، وماركا، ورأس العين، واليرموك، حيث تتدرج حسب القيمة التراثية للموقع، فمنها ما يمنع هدمه نهائيا ومنها ما يسمح بهدمه بشرط موافقة الجهة المسؤولة عن التراث العمراني في أمانة عمان ولجانه بما يتناسب والنسيج العمراني والحضري المحيط. ويوضح الربضي أن طلبات هدم المباني تتم مع أمين عمان، وهي مرتبطة بالموافقة على التصميم المقترح ومدى تلبية متطلبات أمانة عمان من حيث الكثافة العمرانية وتوفير عدد كاف من مواقف السيارات وانسجامه مع النسيج العمراني المحيط ليصادق قسم التراث العمراني على المخططات التي تتم الموافقة عليها. ويتحدث الربضي عن قسم التراث العمراني الذي يرأسه، مبينا أنه تأسس سنة 2003 ليكون الجهة المعنية بالحفاظ على التراث العمراني والحضري لمدينة عمان. وتحددت مهماته بالمحافظة على أصالة مدينة عمان وهويتها وتراثها العمراني والحضري، وتوثيق المواقع التراثية وتصنيفها، ووضع استراتيجيات وسياسات الحفاظ الكفيلة بذلك وتحقيق سجل التراث العمراني، وإعادة إحياء المناطق والمواقع الأثرية من خلال الدراسات ومشاريع التطوير والمشاريع الاستثمارية ومراجعتها فنيا للارتقاء بواقعها العمراني والاجتماعي والاقتصادي والبيئي ضمن إطار التنمية المستدامة، فضلا عن تنمية الوعيوالتثقيف التراثي، وللإسهام في تطوير المنتج السياحي في مدينة عمان وجعلها مركز جذب سياحي. ويقول الربضي “تم وضع المناطق التي تحتوي على معمار تراثي قيد الدراسة بهدف حماية المواقع التراثية ضمنها وحماية النسيج العمراني المتميز لهذه المناطق، إذ تتم مراجعة جميع طلبات التطوير ومدى تلبيتها لمتطلبات أمانة عمان من (هدم، بناء، صيانة، ترميم، إعادة استعمال، الخ…) مع قسم التراث العمراني واللجنة الفنية الاستشارية للتراث وهي لجنة مشكلة من أشخاص يعتبرون بيوت خبرة في مجال الحفاظ العمراني من خارج أمانة عمان، إذ ترفع توصياتها إلى أمين عمان”. أنسنة المدينة الإعلامي في أمانة عمان الكبرى مازن فراجين يلفت النظر إلى أن عمان تمتاز بمواقع أثرية مميزة كسبيل الحوريات وجبل القلعة والمدرج الروماني، وموقع عين غزال الذي يعد من أقدم الأماكن، وتواجد فيه مجتمع عاش على نظام غذائي وزراعي منظم.عمان تمتاز بمواقع أثرية مميزة ويشدد على أن المحافظة على الأبنية التراثية في مدينة عمان واجب وطني لحفظ هوية عمان واستحضار ماضيها وتاريخها العريق، مؤكدا أهمية تطوير وتحديث التشريعات وتفعيل قانون حماية التراث العمراني والحضري لعام 2005. ويؤكد أمين عمان عقل بلتاجي أن الأمانة تسعى إلى “أنسنة المدينة” من خلال المشاريع التي تنفذها والخدمات التي تقدمها لتكون عمان رفيقة وصديقة للمواطن والزائر والسائح، وإعادة هويتها التراثية والثقافية والحضارية والجمالية، التي شوهتها الفوضى والمخالفات والاعتداءات على الأرصفة والشوارع. وسط عمان، التي يسمونها شعبيا وسط البلد، يكشف الزائر طارق الداودي من المغرب لـ”العرب” عن انطباعاته قائلا “نزلت إلى وسط البلد، مثل أي سائح يريد اكتشاف المدينة العتيقة، التي سمعت عنها كثيرا، وتحتضن معالم عمان القديمة وأسواقها وأجواءها الشعبية الدافئة والأليفة عند أبنائها والوافدين إليها، زوارا ومقيمين، فلم أجد الدكاكين والممرات التجارية تختلف كثيرا عن نظيراتها العربية، في دمشق، والقاهرة، ومراكش، مع فارق أن أسواق وسط البلد منفتحة على شوارع وأزقة واسعة، فأغلبها موجود في فضاء مفتوح”. ويتابع “في وسط البلد، تركت نفسي كأنما أمشي على غير هدى، بلا تصميم مسبق، لتفاجئني ممرات معتمة تشبه جيوبا ضيقة في ثوب فضفاض. تتكون إما من دكاكين صغيرة، أو تشبه دهاليز تحبل بالأسرار”. ويضيف الداودي “إن كنت فضوليا وتملك وقتا ـلم أملكه ـ ستغريك بالاكتشاف، وهذا من جاذبية المدن العتيقة. في وسط البلد بعمان، ارفع رأسك وأنت تمشي، ستقع عيناك على الإسفلت حول قدميك أولا، ثم الجدران ذات اليمين وذات الشمال مشغولة بواجهات الدكاكين تعرض بضائعها”. ويقول السائح المغربي “متى تقف ستجد عينيك لا تستأذناك، تنفلتان صاعدتين أمامك تتسلقان درجا صاعدا إلى السماء، بلا مبالغة، هذه مدينة بنيت شامخة، عمودية، فوق تلال شاهقة، وكأن عليك أن تتعب لتعيش فيها أو تستحق العيش، ربما لا تكفيهم الأرض أو يضيقون بها، أو يخبؤون أسرارهم في الأعالي”. لكن الداودي يتساءل مقابل إعجابه بالهندسة المعمارية القديمة من المسؤول عن النفايات المبعثرة، السكان أم البلدية؟ هناك إهمال لمعامل يفترض أن تعمل مصالح السياحة على وضع لوحات صغيرة للتعريف بها، وتعيين مرشدين سياحيين، كما في كل المدن التقليدية. ويقول “صحيح أن زائر عمان يتجول في أماكن آمنة، إنما يحتاج أيضا إلى أماكن مبهجة، بهية. فكرت في الأخير أن وسط البلد في عمان يحتاج إلى من يصقله ويجدد زمانه بتدابير وترميمات وإعادة تأهيل عملية، أو سيهجر ذات يوم ليس بعيدا، ويتحول إلى فضاء عشوائي”. حسن أبوعلي، وهو أشهر كتبي في وسط عمان، قلده العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين وسام الثقافة لخدمته الطويلة للحركة الثقافية في الأردن، من خلال كشكه الصغير في شارع الملك فيصل. يقول أبوعلي “قضيت عقودا في مكتبي هذا أراقب الشارع والتغيرات التي طرأت على وسط البلد، فمن لا يعرف قاع المدينة لا يعرف عمان، ذلك مخفر المدينة (يشير إليه بإصبعه) كان مستوصفا لوزارة الصحة في الأيام الخوالي، وتلك العمارة كانت يوما يشغلها البنك العثماني البريطاني، وذلك السوق الذي أمامك نسميه سوق ‘منغو’ في عمارة بلص، وهي أول عمارة ينصب فيها مصعد كهربائي في عمان”.العمارة القديمة تستهوي الزائر ويضيف بحسرة “أما هذه البناية التي تسمى الآن (ديوان الدوق) فقد بنيت سنة 1924 وكانت بيتا تجتمع فيه شخصيات المدينة ثم شغله البريد الأردني، ثم تحولت إلى فندق اسمه (فندق حيفا)، والآن اتخذها صاحبها مكتبا له، ولكن الجميل أنه أبقاها على قدمها وحولها إلى ما يشبه المتحف وفتحها للزوار، ويوميا يزورها ما بين 70 – 100 سائح أجنبي”. ويأسف أبوعلي على أن البنايات القديمة في وسط البلد تؤول للسقوط يوما بعد يوم وتهملها الجهات المختصة، فيما هي لا تحتاج إلا إلى ترميم، فحسب رأيه، أن أفدح أخطاء الأمة العربية في التاريخ أنها تهدم القديم الأصيل لتستبدله بالحديث المنقول والمقلد. جنة العجائز الملاحظات التي طرحها الزائر المغربي تجد ما يتطابق معها لدى ابن البلد النحات الأردني علي كنعان، الذي يتحدث بعشق عن الأبنية القديمة في عمان، ويقول إن ما يجذب النظر في الأبنية القديمة تلك الأقواس والأعمدة الجميلة والنوافذ الطويلة، والمساحة التي يتركها المعمار بين البابين الخارجي والداخلي للبناء، والتي تستثمر لزراعة الأزهار والورود الملونة والفواحة، حيث تقضي العجائز ما تبقى من أعمارهن فيها مختصرات حياتهن بهذه المساحة، التي يعتبرنها الجنة في آخر الطريق، مشيرا إلى أن العمارة الحديثة تسعى إلى أن تمزج بين القديم والحديث في تصميمها. ويرى أن حظ عمان حسن جدا أن أصبح أمينها عقل بلتاجي، الذي سبق له أن تبوأ منصب وزير السياحة، فعمل على إبقاء التراث والمحافظة عليه ومنع هدم أي بناء قديم إلا بإذن الأمانة ورصد الأموال لشراء الأبنية القديمة وترميمها مثل البيت الذي ولد فيه العاهل الأردني الراحل الملك حسين في شارع الريمبو بجبل عمان، وغيره. لكن كنعان لا يرى أن اهتمام الأمانة والجهات المختصة الأخرى كافيا لإبراز الوجه التراثي لعمان، فهو يرى أن الاهتمام بتثقيف الإنسان بأهمية الأبنية القديمة جانب مهمل في مساعي تلك الجهات، وأن المواطن والمستثمرين في العقارات متواطؤون على خراب الأبنية القديمة وتشويهها لعدم إدراكهم أهميتها، منوها إلى أن ثمة مواقع وأبنية جميلة في جبال عمان والجوفة والنصر مهملة تماما. ويطالب كنعان بمشروع وطني واسع لإحياء وسط عمان شبيه بمشروع إحياء القاهرة الخديوية، ومقترحا تزيين وسط البلد بتماثيل لشخصيات عمان البارزة تنصب في زوايا هذه الأبنية مع لوحة تحمل معلومات عن البناء والشخصية التي ينصب تمثالها عليه.
مشاركة :