أصبح من المستحيل إقامة تواصل حقيقي مع الآخرين الذين يلهثون من أجل مشاهدة فيلم، كما أصبح الكثيرون يفضلون الغرق ليلا داخل حفلات الكوكتيل التي لا تتوقف!العرب أمير العمري [نُشر في 2017/05/24، العدد: 10642، ص(16)] أتيت إلى مهرجان كان السينمائي في المرة الأولى قبل 26 عاما. وطوال سنوات رأيت كيف تغيّر شكل المهرجان تدريجيا، وكيف ارتفعت أعداد المشاركين فيه من شتى الجنسيات والأجناس، وخاصة أعداد الصحافيين والنقاد الذين لم يكن عددهم يتجاوز 800 صحافي، فأصبحوا الآن يقاربون الخمسة آلاف بعد أن توسّع المهرجان وأصبح يقبل الذين يكتبون للمواقع الإلكترونية، بالإضافة إلى صحافة الراديو والتلفزيون والصحافة الورقية التي لا تزال تهتم بهذا الحدث السنوي الكبير. ربما لا يرجع سرّ الاهتمام الصحافي إلى الاهتمام بثقافة السينما، فالسينما في الصحافة وغير الصحافة، لا تحظى بواحد على مليون ممّا تحظى به مثلا كرة القدم ومبارياتها ودوراتها العالمية والإقليمية بل والمحلية، لكن الاهتمام يعود أساسا إلى ارتباط السينما ومهرجاناتها بتواجد نجوم السينما. وليس غريبا أن يكون مهرجان كان المحطة الرئيسية في العالم لالتقاط واكتشاف النجوم من بين المئات من الحسناوات اللاتي ينفقن كل ما لديهن من مال للحضور إلى أغلى بقعة في الأرض (في تلك الفترة تحديدا)، يستعرضن جمالهن وسحرهن بطول شاطئ الكروازيت الشهير، على أمل لفت أنظار كبار منتجي السينما -منتفخي الكروش والجيوب- الذين يستلقون تحت أشعة الشمس على شواطئ الفنادق الراقية المنتشرة بطول الكروازيت. في كان تعقد سنويا صفقات بعشرات الملايين من الدولارات، تشمل بيع وشراء حقوق التوزيع وعرض وتمويل الأفلام من خلال السوق الدولية للأفلام التي تقام على هامش المهرجان وتجتذب الآلاف من الموزعين من أنحاء العالم، ويعرض السوق أكثر من 1500 فيلم في العشرات من القاعات التي تبدأ العروض في الصباح ولا تتوقف آلات العرض فيها سوى في الثانية صباحا، ويشهد كان أكثر من 500 عرض يوميا. ويؤجّر المهرجان مساحات خاصة لأجنحة الدول المختلفة داخل ما يعرف بـ”القرية الدولية”، وهي مساحة كبيرة موازية للبحر تقام فيها خيام خاصة تحمل أعلام الدول المشاركة في السوق، تقدم المعلومات والمطبوعات وأحيانا أسطوانات الأفلام للضيوف الراغبين في الإطلاع على النشاط السينمائي في أي دولة من الدول، كما تقوم بترتيب العروض الخاصة للموزعين. هذا الجانب التجاري السلعي له فوائده التي لا شك فيها، كما أن له أيضا مشكلاته ومضاعفاته، فهو من ناحية يساهم في الترويج للصناعة، ولكنه يجعل من المهرجان سوقا كبيرة تفقده طابعه الثقافي الذي يحتفي أساسا بأعمال السينما الفنية. كانت هوليوود تحديدا هي التي دعمت وموّلت إقامة مهرجان كان الذي انطلق بعد الحرب العالمية الثانية عام 1946 ليصبح بوابة السينما الأميركية إلى أوروبا، أي أن الهدف كان أساسا تجاريا ترويجيا. ولكن في أواخر الستينات، بعد الثورة الفكرية والفنية التي أحدثتها حركة الموجة الجديدة الفرنسية وتمرد السينمائيين الفرنسيين الشباب من جيل الـ68 على الطبقة البورجوازية وأفلامها وتقاليدها ورفضهم المؤسسات التي تنتمي للمجتمع القديم ومنها مؤسسة مهرجان كان، ظهر مهرجان مواز أصبح يقام بانتظام منذ 1969 هو تظاهرة “نصف شهر المخرجين” التي ينظمها اتحاد السينمائيين الفرنسيين وتعرض أفلاما فنية غير تقليدية، الأمر الذي دفع المهرجان الرسمي إلى تعديل سياسته وأصبح يهتم بأفلام المخرجين المؤلفين المبدعين، مع ضمان حضور جيّد لأفلام هوليوود ضمانا لتواجد النجوم من أجل استمرار شعبية المهرجان. الزحام الهائل والإجراءات الأمنية المعقدة، التي ترغمنا على الاصطفاف لساعات يوميا تحت حرارة الشمس انتظارا لدخول قاعات العروض مع وفود الكثير من المدعوين والباحثين عن أي فرصة لإثبات تواجدهم والتقاط الصور (السيلفي وغيرها) والتباهي بالحضور عن طريق نشرها على فيسبوك، جعلا المهرجان يفقد طابعه الحميمي ويصبح ظاهرة مصطنعة زائفة ولم يعد كما كان في الماضي، فقد أصبح من المستحيل إقامة تواصل حقيقي مع الآخرين الذين يلهثون من أجل مشاهدة فيلم، كما أصبح الكثيرون يفضلون الغرق ليلا داخل حفلات الكوكتيل التي لا تتوقف! ناقد سينمائي مصريأمير العمري
مشاركة :