من قال إن العمر مجرد رقم!

  • 5/24/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

في ذكرى ميلاد أحدنا من كل عام، يحتفي بنا الأصدقاء والعائلة، الكعكة المكتنزة بسعادة، تحمل عدداً من الشموع الفرحة، من السهل أن نعد عدد الشموع ونحن صبية، عشر شموع أو أكثر بقليل، لا يهم، كل ما نفكر فيه هو فرحة ميلادنا، وعُلب الهدايا، ومذاق الحلوى، وصورتنا في قلب الكعكة، ومَن سعيد الحظ الذي ستكون من نصيبه قطعة الكريز اللذيذة، ثم نبدأ العدّ التنازلي، تخفت الأنوار.. ثلاثة.. اثنان.. واحد، ترتفع وتيرة الأهازيج، وبحركة واحدة، نُطفئ الشموع، نلتقط صورة تذكارية، وكل عام ونحن بخير. ومع توالي السنوات، تبقى الكعكة غير قادرة على حمل الكثير من الشموع، وإن كنا نجيد حصرها، فنستبدلها بشمعتين كبيرتين، كلتاهما تحمل رقمين، تزيل بنورها ظلال صورتنا التي كبرت مع كل كعكة، ربما يبقى كل شيء حاضراً معنا، العائلة والأصدقاء، الهدايا والحلوى، وقطعة الكريز، إلا نحن، الصورة والشمعتان، نكبر مع كل صورة، ونزيد رقماً مع كل ذكرى. وفي عمر ما نجد أنفسنا مقبلين على مرحلة جديدة، لا نصدق قطار العمر الذي مضى بهذه السرعة الفائقة، ولم يعد يوم ميلادنا مجرد ذكرى نحتفي بها ونغنّي ونرقص معها، بل بات أحياناً قرب ذكرى ميلادنا يؤرقنا، كصورنا على الكعكة، نطيل التحديق في الشمعتين لوقت طويل، نذكر بالأمس ونحن نطفئ شمعة العشرين من عمرنا، فمتى وصل الرقم ثلاثة إلى كعكتي، وكيف سأجدني وأنا أحدق في رقم أربعة، وأين سأكون ورقم خمسة يزيح الأربعة إلى الأبد، يا لها من لعبة أرقام مخيفة، لا تجلب لنا شيئاً من حظ النرد الذي كان يسلينا في لعبة الطاولة، تمضي السنوات بوتيرة أسرع من طبيعتها كلما فوتنا على أنفسنا أن نحيا كل قصة على حدة. وإذا حكينا لأحدهم، يكبرنا سناً، عما نشعر به وعن رحلة الأيام التي تطوف بنا وتمضي دون أن نحقق مرادنا، يأخذ يقص علينا قصص الأبطال، أناس لم ينظروا لشمعتين يوماً، حققوا ذاتهم في وقت يرى فيه البعض أن حياتهم على مشارف النهاية، وإذا هم يدشنون لأنفسهم ميلاداً جديداً، فيه من الأحلام ما تحققت، ومن الشباب ما عاد وازدهر، ومن الحياة ما هو ينتظرهم وأتٍ، ثم ينهي ما أراد أن يبدأ به، العمر ما هو إلا مجرد رقم، ما فاتك يمكن أن تدركه؛ لأنك لا تعلم إلى أي يوم تعيش. ولأنه كلما حكيت لأحدهم عن رحلة الأيام، أخبرني أنه مجرد رقم، بتّ أرى أنها جملة ساذجة أكثر من أنها حقيقة، جملة مُغلفة بروح عاجزة تواسي روحاً بائسة، لا يرددها إلا مَن فوتوا على أنفسهم فرصة الاستمتاع بكل مرحلة في حياتهم، فيربت الآخر على كتفه؛ ليبسط له الحكاية في جملة، العمر مجرد رقم! وتوصلت في النهاية إلى أننا جميعا نتألم على الماضي، لا أحد يعيش على الأرض حتى اليوم لا يرغب في العودة، حتى أكثر الناس نجاحاً، ما زال شريط الذكريات يداهم سكونهم، وتحكي صورهم شغف أحلامهم وهم يخطون أول سطر في حكايتهم، وأن الطريق ألذ عشرات المرات من الوصول إليه، وأن الحلم الذي يداهمنا في أوله، في خيالنا الذي كنا لا نملك سواه، أكثر نشوة من لحظات ملامسة الحلم وهو يتربع على عرش أيامنا. في الحب يحكي العاشقين عن بداية القصة، يوم التقيا، وكيف اختلقوا الصدف لتتكرر لقاءات المغرمين، لحظة اعتراف أحدهم بحب الآخر، أول هدية بينهما، وأول شتاء مجنون جمعهما في الطرقات تحت المطر، وهذا الشعور المجنون الذي يلامس قلوبهما لأول مرة، الرسائل وجنون الاشتياق، الحب وضعفه، كيف وقف أمام طريقهم عشرات العراقيل، وكيف أزاح حبهم أي شيء يحول بينهما، وكيف ترك لمعشوقته أن تختار له ربطة عنقه ليلة زفافهم، وكيف اتفقا على اسم أول طفل لهما، يحكيان كل هذا وهما يحتفلان بالذكرى العاشرة بينهما، وكلاهما في أحضان الآخر، حتى العصاميون الذين لا يحكون شيئاً عن ثروتهم ونجاحهم بقدر ما حكوا لنا عن أيام البرد القاسية وهو نائم في الطرقات، وكيف كان المطر يتسلل من سقف أول غرفة استأجرها، وشعوره بأول قميص جديد اشتراه من أول وظيفة شغلها، ومتى تناول اللحم المشوي بعد أن كان يشتم رائحته من بعيد ويمضي، كل هذا لأننا نميل لأول الحكاية، لماضٍ كهذا نشتاقه ونحبه. وكثيراً ما كنت أتساءل: لماذا نميل للماضي أكثر كلما مضت السنوات؟ يأتي ذلك لأننا في كل الأحوال نخشى ما لا نعرفه عن المستقبل، نتوسل للماضي أن يعود لأننا تعلمنا من تجارب الأمس، ولكن الحياة لا تعطينا دائماً الفرصة لنعوض ما فات، ولكنها تعطينا الفرصة كاملة لنحكي قصة الشمعتين، الصورة والكعكة وما بينهما، ما صار وراح وجاء وعاد وانتهى، ما تحقق وتوّج، وما تاه في الزحام، وما وقف في مفترق الطرق، وما ذهب وانقضى، وما حال واستحال. والشيء الجيد أننا يمكننا أن نتدارك الإخفاقات، ربما نعوض شيئاً من تجارتنا، ونلحق بشيء من دراستنا، ونحقق شيئاً من أحلامنا، ولكن المؤسف أن ثمة لحظات خالدة لا يمكن تداركها، كثورة سيحكي عنها التاريخ لعقود، دبّت كشعاع نور في وسط الظلمات، فاتني يوماً أن أكون وسط الشجعان، شيء كهذا لا يأتي في العمر مرتين. ولأن الخوف من الغد يأخذ أكثر مما فاتنا في الأمس، علينا أن ندرك أن الحياة ليست مجرد رقم، ولو آمنا بذلك سنظل هكذا نرددها في كل مرة، بل إن وراء الأرقام ألف قصة وقصة، أدركنا بعضها، وفوتنا الكثير منها، ولا مزيد لنضيعه، وأن القصص لن تتوقف، وأن السعادة تكمن حينما نصل يوماً نرضى فيه عما قدمناه طوال حياتنا، أن نخوض أكبر كم من التجارب، وأن نجول ونسافر ونغامر ونكتشف، وأن نقرأ كثيراً، ونكتب كثيراً، ونلتقي بكثير من الناس، وأن نستمتع بكل لحظة، وألا نترك الشمعتين والصورة تتغير من كعكتنا كل عام، إلا وقد أدركنا كل اللحظات الممكنة، وأن العمر حياتنا، والحياة كبيرة جداً.. وقصيرة جداً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :