في غضون أشهر قلائل، تحولت الدائرة 13 من العاصمة الفرنسية إلى معرض تشكيلي مفتوح في الهواء الطلق، تتوزع على جدران مبانيه لوحات كبيرة الحجم من مختلف الأساليب الفنية. وتضم الدائرة التي تقع إلى الجنوب الشرقي من باريس مجموعة من الأحياء السكنية القديمة، تتوسطها ساحة إيطاليا «بلاس ديتالي» المواجهة لمبنى البلدية، كما تشتهر بوجود عدد من أشهر المستشفيات، أهمها «هوبيتال دو لا بيتييه» التي مضى تشييدها 600 عام، وفيها لفظت الأميرة البريطانية ديانا سبنسر آخر أنفاسها، قبل 20 عاماً.ونظراً لوجود سلسلة من الأبراج السكنية في الحي، فقد وجد المسؤولون في البلدية أن من الأفضل تكليف عدد من رسامي الشوارع بتزيين مساحات من الجدران الجانبية الخالية من النوافذ، برسوم ملونة تنسجم والحياة العامة الحديثة، بدلاً من تركها لعبث خطاطي «الغرافيتي» الذين كانوا يشوهون الواجهات، ويكلفون البلدية مبالغ كبيرة لإزالتها. وإذا كان «الغرافيتي» قد أصبح فناً معترفاً به في كبريات مدن العالم، ودخلت نماذج منه إلى المتاحف في نيويورك ولندن، فإن هناك طائفة من فناني الشوارع يسعون إلى رسوم تزيينية وليست تشويهية تنمو تحت جنح الظلام، بصورة غير شرعية، خارج حاضنات الدوائر البلدية. ومن هؤلاء «نيمو» و«سيث» و«مس بيجاك» و«إنفادر».يأتي آلاف الباريسيين والسياح الأجانب، كل يوم، إلى الدائرة 13 لكي يتناولوا ما لذ وطاب من أطباق المطابخ الصينية والتايلندية والفيتنامية. ففي هذا الحي يقع الحي الصيني «تشاينا تاون» الذي يجمع أكثر من مليون مهاجر من أبناء المستعمرات الفرنسية السابقة في آسيا. وقد انضمت إليها، في السنوات العشر الأخيرة، عشرات مطاعم السوشي اليابانية. ومن الملاحظ أن أصحابها هم من الصينيين غالباً، لا من اليابانيين. وطبعاً تسللت إلى الحي مطاعم «الكسكسي» المغربية و«التندوري» الهندية و«الشاورما» التركية، إلى جانب أماكن تقدم الوجبات اللبنانية والإثيوبية والإيطالية والإسبانية. وبهذا يمكن لمن يتجول في الدائرة 13 أن يشعر بالألفة مهما كانت جنسيته.ولا بد من التساؤل عن السبب الذي يجعل فنون الشارع تغزو منطقة في مدينة مثل باريس، تعج بالمتاحف الكلاسيكية الرصينة وصالات المعارض الفنية العتيدة والأروقة التشكيلية الراقية؟ الجواب، بحسب الخبراء، هو أن تلك الفنون الجديدة والمعاصرة جداً تستجيب، بشكل أوسع، لتطلعات فئات كبيرة من الشباب، وتقترب أكثر من همومهم واهتماماتهم. لكن هناك أسباباً أخرى، هو أن هذه الأعمال ليست كلها من نمط واحد أو مستوى يلفت النظر. هناك رسوم بألوان زاهية، تجعل الناظر إليها يتردد في الوصف الذي يطلقه عليها. هل هي لوحات أم ملصقات مرسومة؟ كما يتساءل: كيف تتم المحافظة عليها من آثار الطقس والبيئة؟ من المطر والريح ومخلفات الطيور وعبث المارة؟لم تسلم الأرضيات والأرصفة ولوحات الإعلانات من فرشاة هذا الفنان أو ذاك، أو «طباشيره»، أو عبوة الأصباغ المضغوطة، وغيرها من أدوات معتمدة لذلك النوع من الإبداع العفوي، المنطوي تحت التسمية الجماعية «ستريت آرت» أو فن الشارع. ونجوم هذا الفن مجهولون لدى العامة، لكنهم معروفون لدى فئات معينة من الشباب. لذا، تأسست في باريس وحدها أكثر من 20 جمعية وشركة مختلفة، تعنى بحصر أعمال فن الشوارع وتسجيلها ومتابعتها والترويج لها. والأكثر عجباً وحداثة هو تنظيم زيارات لها على غرار الدورات السياحية التقليدية. وإذا كان بعض تلك الأعمال يعد خارجاً على القانون لأنها تنجز من دون موافقة الجهات البلدية ويجري أثناء ساعات الليل وتحت جنح الظلام. لكن غالبية الأعمال تنفذ بطلب من البلديات أو أصحاب العمارات ذات الحيطان العمياء، أي الخالية من فتحات وشبابيك.انطلق إنجاز تلك الجداريات الهائلة بفضل صالة عرض «غاليري إيتينيرانس» التي يديرها فنان عربي يدعى مهدي بن شيخ. وجرى الأمر بالتنسيق مع بلدية الدائرة 13. وتحول الأمر إلى نوع من الحمى، فما أن يستيقظ سكان الحي حتى يجدوا لوحات جديدة بين ليلة وضحاها. هكذا، ظهرت خلال الشهرين الماضيين جداريات بمحاذاة الجسر فوق الأرضي الذي يمر عليه خط المترو رقم 6، بحيث يتسنى للركاب مشاهدتها عند مرورهم. كما تمّ نصب نظام إضاءة خاص لإبرازها في الليل.سمح عمدة الدائرة، جيروم كوميه، بهذه الظاهرة بل تولى تشجيعها. وهو يقول إن هذا الحي السكني الواسع يفتقر إلى متاحف كلاسيكية. فكان لا بد من تعويض النقص بمشهد فني آخر. ويضيف: «فكرنا بفنون الشارع كبديل يضمن بصمة فنية لحينا، وبكلفة معقولة جداً. هل تصدقون أن تلك الرسوم والجداريات والأعمال الأخرى شحنت الحي برمته بدينامية جديدة، واستقطبت أعداداً من الشباب من عشاق تلك الفنون، وبدأت الجمعيات المعنية بتنظيم زيارات بشكل دوري لشوارعنا؟».أما مهدي بن شيخ، صاحب «غاليري إيتينيرانس»، فيؤكد من جانبه أن تلك الحيوية الجديدة لها منافع اقتصادية، فضلاً عن ترسيخ سمعة الحي وتأمين الدعاية له. كما يلاحظ أن عدد الأشخاص الذين يستخدمون المترو أعلى من عدد من يرتادون المتاحف الكلاسيكية. وهم رواد متاحفنا في الهواء الطلق، ونتيح لهم الاطلاع على أعمال خلابة وهم جالسون في مقاعدهم... إنها باريس جديدة، مفعمة بالحيوية وروح الشباب والإبداع وإطلاق العنان للقريحة والخيال».كان تيوأبراموفيتش يتعاون مع أشهر متاحف باريس، بما فيها «اللوفر» و«أورساي». لكنه ترك عمله لكي يتفرغ لفنون الشارع ويتخصص تحديداً في تنظيم زيارات لها. وهناك فنانون يتحولون بأنفسهم إلى أدلاء ومنظمي زيارات. من بينهم كودكس أوروبانوس، الذي اشتهر برسم حيوانات متوحشة على الجدران والأرصفة. وأيضاً «داميان»، وهو شاب إنجليزي ترك لندن ومهنته كصحافي فيها و«هاجر» إلى باريس للتفرغ لتنظيم عدة زيارات في الأسبوع لمعالم فنون الشارع الباريسية، يتولى فيها مهمة الدليل والشارح باللغتين الفرنسية والإنجليزية للسياح الأجانب.
مشاركة :