تحقيق: مها عادل«مَولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.. مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟»يهل علينا شهر رمضان المبارك، فتتردد هذه الأنشودة الدينية الشهيرة للشيخ سيد النقشبندي في أفئدة المتلهفين المقبلين على شهر الرحمة والمغفرة، وتتردد معها العديد من الأناشيد والأشعار التي ترتبط بالمناسبات الدينية، مثل بردة البوصيري الشهيرة في مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، ونهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي. أشكال متنوعة من المدائح والأدعية وتراث فني زاخر بالوجد والشوق والعشق الإلهي، ليثبت أن الحضارة الإسلامية كانت دائماً قادرة على إنتاج الفن الجميل وربطه بالمناسبات الدينية المهمة.وللإنشاد الديني قصة تؤكدها كتب التراث بأن بدايته كانت مع بداية الأذان، وكان الصحابي بلال بن رباح، رضي الله عنه، يجود في أذانه كل يوم 5 مرات، ويرتله ترتيلاً حسنًا بصوت جميل جذَّاب، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في الإنشاد بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في الشام ومصر والعراق وأصبح له قوالب متعددة وطرق شتى. وتؤكد كتب التراث الإسلامي أن بداية الإنشاد الديني كان على أيدي مجموعة من الصحابة، ثم مجموعة من التابعين. وكانت قصائد حسان بن ثابت، شاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم، هي أساس المنشدين. ثم أنشدوا قصائد أخرى لغيره من الشعراء الذين كتبوا في موضوعات متنوّعة منها: الدعوة إلى عبادة الله الواحد، والتمسك بالقيم الإسلامية وأداء الفرائض، غيرها.وفي عهد الأمويين أصبح الإنشاد فنًّا له أصوله وضوابطه وقوالبه وإيقاعاته، واشتهر كثير من المنشدين، وكان أكثر المشتغلين بفن الإنشاد الديني وتلحين القصائد الدينية، إبراهيم بن المهدي وأخته عَليَّة، وأبو عيسى صالح، وعبد الله بن موسى الهادي، والمعتز وابنه عبد الله، وعبد الله بن محمد الأمين، وأبو عيسى بن المتوكل، وغيرهم. وكان عبد الملك بن مروان في دمشق يشجع الموسيقيين وأهل هذا الفن ويدعمهم.وفي عهد الفاطميين تطور فن الإنشاد، فأصبحوا أول من احتفل برأس السنة الهجرية، وبليلة المولد النبوي، وليلة أول رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وغرة رمضان وعيد الفطر وغيرها من المناسبات. وفي بدايات القرن العشرين أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الفنون كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية، والمناسبات الدينية. وتطوّرت قوالب الفن فأصبحت له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجِّد الدين الحنيف، وتدعو لوحدة المسلمين، وتشجب الرذيلة، وتدعو إلى الفضيلة، كما ظهرت قنوات متخصصة للإنشاد، فظهرت الفرق الحديثة التي تتمتع بشعبية وجماهيرية واسعة، بعد أن فتح الإنشاد الديني ذراعيه ليضم أطيافاً مختلفة ومتنوعة من القوالب، وسمح بدخول العديد من الجنسيات والمرجعيات والأهداف المتباينة.وحرصت دار أوبرا دبي، على تقديم ذلك النوع خلال موسمها الأول، فأقامت حفلاً للمنشد العالمي سامي يوسف، لتغير من الصورة الذهنية التي يتصورها البعض بأن الموسيقى والغناء تدور حول الترفيه فقط، بينما واقع الأمر أنها تحلّق بالمستمعين في عالم من الروحانيات.تميز حفل سامي يوسف بإقبال كبير وتجاوب فاق التوقّعات، واستطاعت الألحان الشرقية الشجية أن تخترق وجدان المشاهدين رغم اختلاف جنسياتهم، وعبرت الحدود بين اللغات فكان بينها العربية والإنجليزية والتركية. وتخلل الحفل إلقاء سامي يوسف لكلمات تعبر عن أهمية هذا الفن وضرورة الحفاظ عليه، قائلاً: «فن الإنشاد الديني يحمل تراث أمة وعقيدتها وهو طريقة للوصول إلى قلوب وعقول المشاهدين والتحليق بهم في عالم غني، يثري الأرواح والنفوس بكلمات غنية بالمشاعر الإيمانية والنغمات الشرقية الأصيلة التي تحيي تراثنا وموسيقانا، ونحرص في تقديمه على الاعتماد على فريق موسيقي متنوع يتضمن آلات غربية مثل البيانو والآلات الوترية، كما يضم تختاً شرقياً به العديد من عازفي الدفوف، وهي الآلة ذات النصيب الأكبر في ذلك الفن».وأضاف يوسف: «الإنشاد الديني يحافظ على هويتنا الإسلامية ويصل بها إلى كل الثقافات، كما أنه هو الحصن الأخير للحفاظ على العديد من التراث الموسيقي الشرقي والعديد من الآلات الشرقية التي أصبحت تعاني الإهمال. ونحرص من خلال تقديمه على إيصاله للأجيال الجديدة وتعريفهم به أكثر. وأعتبر أن مشروع عمري هو إحياء هذا التراث الفني الغني الذي يتميز بتعدد روافده، من الهند إلى مراكش ومن آسيا الوسطى إلى اليمن وإفريقيا».ويحدثنا الملحن الإماراتي الكبير إبراهيم جمعة عن خصائص الإنشاد الديني وتاريخه، ويقول: «الإنشاد الديني له تاريخ طويل ويمتد تاريخه لصدر الإسلام، وحين هاجر الرسول، عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة خرج أهلها يستقبلونه بالأناشيد والدفوف، وما زلنا نذكر نشيد (طلع البدر علينا) الذي يؤرّخ لهذا اليوم المشهود».ويضيف: «ارتبط الإنشاد الديني في الأذهان باستخدام آلة الدف، وهي التي يطلق عليها في منطقة الخليج اسم (التار) أما في الإمارات فتسمى (سماع)، كما أن للإنشاد مقامات ويخاطب العقل والروح ويغذي الشعور الإيماني والحس الروحاني».ويتابع: «تراث الإنشاد الديني يختلف من مكان إلى مكان، فكل بلد له هوية ثقافية تصبغ فنونها التراثية وتراثها الديني والشعبي بروحها وبيئتها، وهناك تجارب ناجحة لبعض الملحنين استفادوا من التراث الديني في (البردة)، وكان هذا استخداماً صحيحاً في رأيي، ولكن للأسف بعض ما نسمعه في الإذاعات ونشاهده على الشاشات يفتقد الهوية الإماراتية».وعن المقامات الموسيقية المستخدمة يقول جمعة: «لدينا العديد من المقامات التي درج استخدامها في الإنشاد، مثل الحجاز والبياتي الحسيني والنهاوند والكورد، وبشكل عام فإنه من الفنون الراقية التي تقدم المعاني السامية والكلمات التي تهذّب النفس وتشبع الروح، وتقديم هذا النوع على خشبة مسرح الأوبرا أمر مطلوب وضروري، ليحمل تراثنا العربي والإسلامي إلى العالمية».
مشاركة :