حكومة تفعل أهم مطلب من مطالب الثورة وهو مقاومة الفساد في خطوة جريئة وحكيمة نرجو ألا تكون مجرد رد فعل أو انعكاس شرطي للاحتجاجات المتصاعدة.العرب عبدالستار الخديمي [نُشر في 2017/05/25، العدد: 10643، ص(6)] الأحداث تتوالى بنسق متسارع في تونس تحديدا منذ خطاب الرئيس الباجي قائد السبسي الذي أعلن فيه ضرورة حماية المؤسسات المنتجة أمنيا وعسكريا، وتلاه تصريح رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي أمر بتطبيق القانون ومنع المحتجين في محافظة تطاوين، في الجنوب التونسي من تعطيل الإنتاج في الحقول البترولية. كل ذلك كان طبيعيا في ظل التجاذبات بين المحتجين والحكومة. ولكن سقف المطالب ارتفع. ولم يتورع بعض المحتجين على غلق إحدى مضخات النفط، ما سرّع من وتيرة الأحداث التي انتهت إلى مقتل شاب من المحتجين اختلفت الروايات في هوية السيارة التي دهسته. الوضع أصبح خطيرا ينذر بالانفجار. تناقضت التصريحات بين محمّل المسؤولية للحكومة في اعتمادها العنف لفض الاعتصام وبين داعم لشرعيتها ولشرعية ما قامت به حفاظا على الثروات الطبيعية وهيبة الدولة. الاحتجاج بجميع أشكاله، حق يكفله القانون طالما حافظ على سلميته ولم يعرض أمن البلاد إلى المخاطر. لكن ما حدث تجاوز السلمية. أغلقت مضخة النفط وفي ذلك تعطيل للإنتاج ومساس بالثروة الوطنية. وحرقت بعض المقرات الأمنية. وتصادم المحتجون مع رجال الأمن. وعمت الفوضى. وتتالت التصريحات المعقلنة والمحرضة في آن. هاجمت الجبهة الشعبية وبممثليها في مجلس نواب الشعب الحكومة بل وصل الأمر إلى إفقادها صفة الشرعية لقيادة البلاد وإدارة الأزمة. وتموقعت بعض الأحزاب في صف المحتجين وأعلنت عداءها الصريح للحكومة. بعض الأحزاب الأخرى بما فيها المنضوية تحت لواء الائتلاف الحاكم لم تستطع أن تتموقع بل ترددت في إبداء موقف واضح مما يجري. في ظل كل هذه التجاذبات اتخذت حكومة الشاهد خطوة جريئة في حركة مفاجئة للجميع، ففعّلت أهم مطلب من مطالب الثورة وهو مقاومة الفساد في مصادفة غريبة مع اغتيال أشهر القضاة الذين ضحوا بأنفسهم من أجل المبدأ وهو القاضي الإيطالي جيوفاني فالكوني الذي اغتيل في 23 مايو 1992 على يد المافيا، في حركة رمزية لها أبعاد عميقة حتى إن لم تكن مقصودة. وقع اعتقال مجموعة من رجال الأعمال والعاملين بسلك الديوانة (الجمارك)؛ شفيق جراية ونجيب بن إسماعيل وياسين الشنوفي ورضا العياري وعبد السلام اليونسي، وآخرين. الاعتقالات باركها الجميع لأنها تحقق أهم مطلب اجتماعي منذ ثورة 2011، ولكن اختيار التوقيت يطرح أكثر من استفهام. هل كانت بدافع الضغوط التي سلطت على الحكومة وإحساس يوسف الشاهد بأن المناورة السياسية لم تعد مجدية أمام تصاعد التوتر وخاصة بعد الصدامات الأخيرة واستشهاد محتج؟ أم كانت خطوة موضوعية لرأب الصدع بين الحكومة ممثلة السلطة الشرعية في البلاد وبين المحتجين ومن ورائهم الشرائح الاجتماعية المهمشة في كل ربوع تونس؟ هل السعي لاعتقال من حامت حولهم شبهات فساد كفيل بإنقاذ الحكومة ومن ورائها الأحزاب في الائتلاف الحاكم؟ نعتقد بأن رئيس الحكومة يوسف الشاهد تحسس الجانب المسكوت عنه في التسيير السياسي والإداري لدواليب الدولة. لم يختف الفساد يوما في الممارسات العادية، فما بالك بـ”المافيات” التي تتربع على عرش الدوائر المالية ودوائر النفوذ الإداري. خطوة جريئة وحكيمة للشاهد ولكن نرجو ألا تكون مجرد ردّ فعل أو “انعكاس شرطي” لما يحدث من تطورات تتعلق بنسق الاحتجاجات المتصاعد. على الأحزاب المشاركة في السلطة أو المعارضة أن تدعم هذه الخطوة لكي لا تكون الأخيرة. بل لتكون القاطرة الرئيسية لإخراج البلاد من عنق الزجاجة. على الجميع تأجيل المناكفات والمهاترات السياسية، والتوحّد في بوتقة المصلحة الوطنية. المستقبل يتأسس على مدى نجاعة الخطوات الجريئة حتى وإن كانت موجعة ومؤلمة. أخيرا نتساءل عن مصير مبادرة المصالحة الاقتصادية في ظل هذه المعطيات الجديدة. ولكل حادث حديث. كاتب تونسيعبدالستار الخديمي
مشاركة :