فهم ملابسات الواقع المعيش والتغييرات التي طرأت على نمط الحياة الذاتية والعائلية والاجتماعية وحتى الكونية، هي أبرز الوسائل المتاحة لتجاوز عتبة الخوف وجعلها لا تتجاوز المقاييس الطبيعية والفطرية، ولا تتطور لتصبح عاهة نفسية مقلقة.العرب عبدالستار الخديمي [نُشر في 2018/01/28، العدد: 10883، ص(21)] لا يختلف اثنان في أن الخوف من الطبائع البشرية الفطرية التي يشترك فيها الجميع دون استثناء. وتختلف درجة تأثيرها على نفسية الإنسان سلبا أو إيجابا، فحتى أشجع الشجعان هم بشر يخافون كغيرهم ولكن ما يميزهم عن الآخرين أنهم قادرون على التحكم في مشاعر الخوف بحيث لا يتركونها تطفو على سطح سلوكياتهم، بما يعطل سعيهم إلى الفعل وإثبات الوجود. المثير للانتباه في أيامنا هذه ليس الإحساس بالخوف لأنه أمر طبيعي وفطري، ولكن الجدل قائم حول تنامي هذه المشاعر لتصبح من الكوابيس التي تكبل الفعل الإنساني وتجعله رهين التردد والعجز. ولئن كان هناك من الناس من يحاولون كتم هذه المشاعر وجعلها حبيسة داخل ذواتهم ومتقوقعة في نفوسهم دون القدرة على تجاوزها وتجاوز آثارها السلبية، فإن آخرين لا يدّخرون جهدا في طرح الموضوع مع المقربين منهم أو الالتجاء إلى أخصائيين في الطب النفسي بحثا عن حلول لمشكلاتهم التي تؤرقهم وتساهم بقسط كبير في تشنج علاقاتهم بمحيطهم العائلي والاجتماعي عموما، بل قد تؤثر في هذه العلاقات تأثيرا قد يصل بها إلى حدود القطيعة النهائية. ما الذي أجّج مشاعر الخوف والرهبة لدى الأشخاص في هذا الزمن، لتطفو على السطح وتمثّل عائقا نفسيا رهيبا يحول دون التنعم بالحياة؟ لدراسة أسباب تعاظم الإحساس بالخوف لا بد من اتباع المنهجية التي تقرّبنا أكثر ما يمكن من الظاهرة لفهمها ثم محاولة البحث عن الحلول المناسبة لتجاوزها. من المنطقي دراسة الأسباب الذاتية والموضوعية دون إغفال للمحيط الأسري والاجتماعي، ذلك الفضاء الذي يتحرك فيه الأشخاص ويمارسون أنشطتهم اليومية، ثم دراسة مظاهر هذا الخوف وارتداداته على الأشخاص والأسر وعلى المجتمع ككل، وأخيرا اقتراح بعض الحلول الممكنة. مصادر الخوف متعددة ولكن يمكن حصرها في ثلاثة أبعاد رئيسية وهي؛ أولا البعد النفسي لأن مشاعر الخوف تتملك النفس البشرية بما أنها فطرية ولكن المكتسب اجتماعيا يمثل المعايير الكمية والنوعية لأحاسيس الخوف. وفي حالات عديدة يتجاوز الخوف كونه شعورا إنسانيا طبيعيا عاما إلى مرض نفسي يلازم صاحبه فينغّص عليه عيشه. أما البعد الثاني فهو اجتماعي بالتأكيد فقد تساهم العلاقات الأسرية أو بالأحرى التربية الأسرية في تضخيم الشعور بالخوف من كل شيء لدى الأبناء، فيكبرون وفي داخلهم هوس ورهبة وريبة من الفعل والمبادرة ونسج العلاقات.. الآباء والأمهات وأمام ما يلاحظونه من انحرافات سلوكية وأخلاقية وتغيّر للمنظومة القيمية إلى الأسوأ، ينتابهم شعور رهيب بالخوف لا على أنفسهم بل على مستقبل أبنائهم، حيث يرون أن الكثير من الضبابية تكتنفه، وانطلاقا من ذلك ينقلون تخوفاتهم إلى فلذات أكبادهم فيضخمون لديهم دون وعي منهم شعورهم بالخوف من ذواتهم ومن المجتمع ومن المستقبل. وآخر الأبعاد الموضوعية للخوف يتعلق بالجانب الاقتصادي والذي شهد في العقد الأخير اهتزازات وتوترات كنتيجة حتمية للأزمات الاقتصادية والتي كانت ارتداداتها واضحة على جميع الدول والشعوب. وهو ما جعل ضمان الحدّ الأدنى من متطلبات العيش الكريم يرهق الأفراد والأسر وحتى المجتمعات، فتفشي ظاهرة البطالة وما ينجرّ عنها من خصاصة وفقر وعجز، يساهم في تضخيم الشعور بالخوف من الحياة ومن المستقبل، فيتعاظم شيئا فشيئا إلى أن يصبح ككرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت. إذن اتضح أن مشاعر وأحاسيس الخوف تجاوزت الحدّ الطبيعي والفطري لتلتحق بقائمة أمراض العصر وكما هو معلوم فإن طبيعة الحياة ومظاهرها النفسية والمادية ساهمت في تضخيم الأمر وساد التشاؤم أفكار الناس واكتنفت الضبابية وعدم الوضوح مسارات مستقبلهم، ما انعكس على السلوكيات الخاصة والعامة، فتفككت الأسر وتلاشى الودّ الذي كان يجمع أفرادها، وأضحت عاجزة عن تربية جيل مقدام وفاعل وجريء. أما المجتمعات فتفشت فيها الجريمة وتدني الأخلاق والانتهازية والأنانية المفرطة، وكلها تصرفات ناتجة عن فقدان الأمل والخوف من كل شيء حتى من الحياة نفسها. وهناك طريقتان للتعامل مع الظاهرة؛ أولاهما أن يعاني الأشخاص من الشعور بالخوف بكل وطأته على نفوسهم من ناحية وعلى العلاقات التي تجمعهم بمن حولهم سواء داخل الأسرة أو خارجها، وهؤلاء يكابدون من أجل الحياة ويفشلون عادة في امتحاناتها العسيرة في جميع المجالات. أما الطريقة الثانية فيعتمد أصحابها على المواجهة، فيحاولون فهم الظاهرة بأسبابها ونتائجها وهي من أقصر الطرق لتجاوز أزمة الخوف المتراكمة. كما أن هناك الأكثر جرأة فيعرضون الأمر على الأخصائيين النفسيين فيساعدونهم على تجاوز الأمر، ما يمكنهم في ما بعد من التوازن النفسي والاجتماعي والنجاح في الحياة. نعتقد أن فهم ملابسات الواقع المعيش والتغييرات التي طرأت على نمط الحياة الذاتية والعائلية والاجتماعية وحتى الكونية، هي أبرز الوسائل المتاحة لتجاوز عتبة الخوف وجعلها لا تتجاوز المقاييس الطبيعية والفطرية، ولا تتطور لتصبح عاهة نفسية مقلقة. كاتب تونسيعبدالستار الخديمي
مشاركة :