الولايات المتحدة.. من الانعزالية إلى العدمية

  • 5/25/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

محمد امين| ورد في مقالة نشرها فريد زكريا عام 2008، أن «العالم يسير على خطى الولايات المتحدة، فكثير من الدول أصبحت أكثر ميلاً للسوق المفتوحة والديموقراطية»، فمنذ انهيار الشيوعية، ما انفك المسؤولون السياسيون والاقتصاديون الأميركيون يتباهون بالادعاء بأننا نعيش أو على وشك أن ننعم بأفضل الأوقات، ولكن المأزق الدموي الذي عاشه الأميركيون في العراق وافغانستان، فضلا عن اسوأ ازمة اقتصادية مّرت بها البلاد منذ الكساد العظيم 1929، يمثل تفنيداً لمقولة زكريا بأن العالم يسير على خطى الولايات المتحدة، ومع ذلك، أعلن الرئيس السابق باراك اوباما العام الماضي أنه «إذا أُعطي لك الخيار في أي عصر انساني تودّ أن تعيش، فلابد أنك سوف تختار هذا العصر وفي أميركا». ولكن ما حطم هذه الأوهام هو الطابع الديماغوجي الذي طغى على الحملة الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة والذي توّج بانتخاب دونالد ترامب والاستقطاب الحادّ في المجتمع الأميركي. لقد حدث أن شهدت الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين تجربة مريرة من الأزمات الاقتصادية التي لا حدود لها، والصدامات السياسية والاجتماعية الحادة والتمردات من أقصى اليمين. واليوم، يقود الولايات المتحدة زعيم ديماغوجي بمساعدة الأخبار المفبركة وفي عداء سافر للحقيقة. وما من شك في أن الوعود باهظة الثمن من قبل النخبة الحاكمة وافتراضاتها غير المجرَّبة، مسؤولة – ولو جزئياً على الأقل – عن الانهيار الأخلاقي في الدولة الأقوى في العالم، فقد صرّح أوباما عام 2011 على سبيل المثال، «نحن نتجه إلى جعل القرن الحادي والعشرين، القرن الأميركي» بيد أن كثيرين ينظرون إلى ذلك باعتباره مبالغة صارخة، كما يُنظر إلى نجاح أوباما باعتباره مجرد حالة معزولة لرجل محظوظ من أقلية تعاني تاريخياً من الاضطهاد. نجاحات فردية فالتعميم على نطاق عالمي على أساس نجاحات فردية، أو الزعم بأن كل شيء على ما يرام، قد يكون كارثياً من الناحية السياسية، لا سيما حين يختزل الخسران والفساد والخوف، تجربة الأغلبية من هؤلاء الناس، وما كنا لنتعلم شيئاً من انتصار ترامب لو لم نفهم اليوم كيف ولماذا انخرطت النخبة الأميركية في عملية تعزيز التمييز الاقتصادي والثقافي والذي أصبح مرفوضاً من كثيرين، وكيف أدت خسارتهم لمصداقيتهم الفكرية والاخلاقية، إلى إدخالنا في عصر ما وراء الحقيقة! فتقدم النخبة في عصر الانحدار الذي يبدو غريباً حين ينظر اليه من منظور الحاضر، شكل انحرافاً جاداً عن المزاج الثقافي القلق في اوساط المفكرين الاميركيين في خمسينات القرن الماضي. وفي ظل الخراب الذي كانت تشهده اجزاء واسعة من اوروبا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية، اصبحت دولة انعزالية زعيمة للعالم، ولكن الامكانية الحقيقية لاندلاع حرب مدمرة اخرى مع خصم ايديولوجي يمتلك السلاح النووي، الشغل الشاغل لأذهان ومشاعر كثير من الناس، كما ان انزلاق المانيا مؤخرا نحو التعصب القومي، وهي من اكبر دول العالم صناعياً وثقافياً وفكرياً، يعد مؤشرا قويا الى وجود مشكلة ما في الحضارة الغربية. خداع الذات وانفراد الولايات المتحدة على قمة الهرم العالمي من حيث القوة، والذي يعتبر سببا للتباهي بالنسبة للبعض، الا انه يثير كثيرا من القلق، ففي عام 1960 نشرت مجلة لايف سلسلة من خمس حلقات وثائقية بعنوان «الهدف القومي»، والتي طرحت السؤال هل اميركا دولة عظمى بالمعنى الايجابي للكلمة؟ وعبر المرشح الرئاسي آنذاك اولاي ستفنسون الذي لا يقل ثقافة عن اوباما، عن قلقه من ان «خداع الذات جعل الحقيقة تفلت من بين ايدينا». وسلط كتاب من امثال ارثر ميلر وسول بيلو ونورمان مايلر الضوء في اعمالهم على «التناقض الذي جعل الاميركيين يتمتعون بمستويات المعيشة الاعلى في العالم، وفي الوقت ذاته يعانون من طريقة حياة خاوية» على حد تعبير جيمس بالدوين. ويصف عالم النفس الاجتماعي رايت ويلز كيف يسرق ابناء النخبة ثمار التقدم الاميركي. وعبر كاتب آخر، هو وولتر ليمان عن قلقه من ان الثراء الخاص قد يشكل قاعدة اخلاقية ضعيفة للمجتمع. وبالنسبة لكثير من مفكري منتصف القرن، فإن العدمية والانهيار الكارثي للثقة بالايديولوجية القومية والمؤسسات الوطنية التي حدثت في اوروبا، يمكن ان تحدث في الولايات المتحدة ايضا. الحلم الأميركي وكشفت حقبة الستينات والسبعينات عن امة منقسمة بصورة حادة على اساس خطوط «جيلية» (نسبة الى جيل)، وعنصرية ودينية وجنسية (ذكر وانثى)، وسياسية. فقد وجد السود والبيض والأسوياء والشاذون والرجال والنساء ومؤيدو حرب فيتنام ومعارضوها، أنفسهم وجهاً لوجه. وبدت المبادئ الأولى لقيام المجتمع الأميركي «مثل الحقوق غير القابلة للتصرّف كالحياة والحرية والسعي نحو السعادة» للوهلة الأولى، غير قادرة على تحقيق التساوق والانسجام بين المصالح المتنافسة، بل والمتصارعة أحياناً. لكن العقيدة الأميركية التي صيغت أصلاً بواسطة ملاّك العبيد والتي تمسك بها البيض بحماس شديد من مختلف ألوان الطيف الايديولوجي، ما يزال لها أنصار كُثْر. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى غياب البديل الفاعل في إحداث الرخاء ودفع الحريات الشخصية. ومع مرور الزمن، حدث تقدم تمثل في قانون الحقوق المدنية لعام 1964 والحرب على الفقر والمكتسبات التي حققتها المرأة، وهو التقدم الذي أبقى على الإيمان بالحلم الأميركي. أمة مريضة ومع حلول الثمانينات من القرن الماضي، أسكت رونالد ريغان أو «الريغانية» أي أصوات تتحدث عن «مرض الأمة»، وانعش انهيار الشيوعية النموذج الأميركي. كما أن اختفاء الخصم الذي صاغ صورة أميركا أمام نفسها طوال معظم سنوات القرن العشرين، وأدى إلى صعود شكل من أشكال الغطرسة التي حذّر منها عدد كبير من المثقفين الأميركيين، واستقبلت روسيا ما بعد الشيوعية جيشاً من الخبراء الأميركيين في مجالات الاقتصاد والتكنوقراط والصحافيين المصممين على توجيهها نحو النموذج الأميركي من الديموقراطية والسوق الحرة. مأزق روسيا لقد كان من السهل جداً نسيان حقيقة أن الاخفاقات الكارثية «لبلاشفة السوق» كما أطلق عليهم الخبير الاقتصادي جوزيف ستغليتس هي التي أخرجت إلي السطح أكبر ديماغوجي في عصرنا الحاضر: فلاديمير بوتين، فقد جاء الأخير إلى السلطة في روسيا في نهاية التسعينات على خلفية تعهده بحل مشكلات البلاد بعد تجربة الخصخصة ورفع القيود الاقتصادية التي أدت إلى انهيار معدلات الدخل الفردي والصحة والعامة وارتفاع معدلات البطالة ووفيات الأطفال. وقد أسهمت الولايات المتحدة في تعميق هذا المأزق الروسي. ويكشف ذلك كيف أن شبكة من النخبة من ليبراليين جدد وأنصار للعولمة وليبراليين كونيين، إضافة إلى مثقفين من المحافظين الجدد، مارسوا الضغوط والنفوذ من خلال تحوّلهم إلى خدمة السياسيين. ومن ثم، فإن بروز «القاعدة» و«داعش» وأزمة الرأسمالية المالية أكدّت أن هذه النخبة كانت أكثر رسوخاً من أن تزحزحها اخفاقاتها وأكثر غطرسة من أن تتعلم من هذه الاخفاقات. عصر الغضب لقد وسم نجاح بوتين في إذكاء المشاعر القومية، مبكراً، عصر الغضب الذي نعيش فيه، العصر الذي استغله الديماغوجيون جيداً لتحريض ضحايا الرأسمالية ضد أنظمة الخصخصة العالمية، ولكن من النادر أن تتم مناقشة أسباب هذا الغضب حتى أن المثقفين الليبراليين الوسطيين يوجهون الاتهامات بشكل روتيني لبوتين بأنه يحاول التأثير في الوضع السياسي الداخلي في أميركا. اقتراحات خاطئة ويشعر كثير من الأميركيين اليوم أنهم مضللون من الخبراء السياسيين والتكنوقراط والصحافيين الذين زعموا أنهم يمتلكون الحقيقة، وقدموا سلسلة من الافتراضات التي سرعان ما تبين انها خاطئة مثل تنامي تيار العولمة الذي سيعود بالفائدة على الجميع، وبأن السوق حرة وعادلة، وأن العلاج بالصدمة سيقود إلى دخول الرأسمالية إلى روسيا، وأن علاج الصدمة والترويع.. سيأتي بالديموقراطية إلى العراق. فكثير من ضحايا الاضطهاد اليوم يرون أن النخبة هي مجموعة من الدجالين! فالضحايا في كل مكان يفرنقعون عن سياسيي المؤسسة وإعلام التيار العام ويستسلمون لحقائق بديلة. بهذا المعنى الذي لا يراه المتفائلون من أمثال أوباما، يمكن القول إن القرن الحادي والعشرين هو القرن الأميركي. فالأنظمة السلطوية في الصين وإيران وغيرهما تحاول كبح التحديات التي تواجهها من خلال حجب الإنترنت وترميم أوهام الوحدة الوطنية. ولكن الدولة التي تعتبر أقدم الديموقراطيات الحديثة وتقود العالم الحرّ تعجز عن الحيلولة دون تصدع معتقداته وقيمه. إنها تقوده إلى العدم. نيويورك تايمز

مشاركة :