النحاسون في مصر يعزفون نشيد النقش في شارع المعز

  • 5/26/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

النحاسون في مصر يعزفون نشيد النقش في شارع المعزالنقش على النحاس وزخرفته ووضع الرسوم والصور عليه، من الحرف المصرية التي تزين جنبات شارع المعز لدين الله الفاطمي، والتي تجعله يتنفس تاريخا فيعيد من زاره إلى روعة التاريخ الإسلامي وحضارته. وفي هذا الشارع العريق يوجد عدد من الحرفيين المولعين بفن النقش الذي يعدّ من أبرز الفنون الشرقية والإسلامية والتي مازالت تحتفظ ببريقها الخاص رغم تناقص المختصين في فنونها.العرب  [نُشر في 2017/05/26، العدد: 10644، ص(20)]فن لا يموت في القاهرة القاهرة- ما إن تقترب من شارع “المعز لدين الله الفاطمي” التاريخي وسط العاصمة المصرية القاهرة، حتى تدرك الأذن قبل غيرها من الحواس الدخول إلى “حي النحاسين” الشهير، بفضل أصوات الطرق المتواترة من مكان غير بعيد سرعان ما تصبح عزفا لأشهر الفرق النحاسية في أذن السامع. في هذا المكان يُصنع نوع خاص من الفن، وتنطق النقوش على المصنوعات النحاسية لتدوّن الحضارة المصرية، منبئة بعراقة الحي والمهنة والفن الذي شارف على الاندثار. وبحسب موسوعة مصر القديمة للدكتور سليم حسن، فإن الفراعنة من أوائل الشعوب التي استخدمت النحاس قبل نحو خمسة ألاف عام، حيث أتقنها الكثير من الحرفيين آنذاك، وزينوا بها المعابد وتفننوا في استخدامها في حياتهم اليومية، حيث تشهد أثارهم على ذلك ومن بعدهم توارثها المصريون جيلا بعد جيل حتى أصبحت هناك أماكن بعينها في القاهرة كسوق النحاسين وربع السلحدار والجمالية تشتهر بتصنيعها وبيع منتجاتها ومازالت البعض من تلك الورش باقية إلى اليوم تقاوم الاندثار.شيوخ الحرفة يبحثون عمن يتعلم فنونها وقدّرت منظمة اليونسكو أهمية تلك الحرفة فاعتبرتها تراثا إنسانيا يجب الحفاظ عليه ودعت الحكومة المصرية إلى تقديم يد العون للصناع وتيسير تصدير منتجاتهم إلى الأسواق العالمية لتشجيعهم على الاستمرار في مزاولتها. وكانت للنحاس أهمية في حياة المصريين، فقد كان أثاث العروس لا يكتمل إلا بطاقم الحلل النحاسية وصينية الأكل و”طشت” الغسيل وبراد الشاي والهون، وكذلك موقد الكيروسين وقبل كل هذا “الطنجرة” وهو إناء كبير الحجم بغطاء شبيه بقبة المسجد يستعمل في الولائم والأفراح ويوضع فيه الطعام الرئيسي “الفتة بالكوارع والمحشي والأرز باللحم” ليأكل منه جميع أفراد الأسرة. مراحل للجمال اليدوي في ورشة عائلته بحي النحاسين، وهي تعود إلى عام 1920، يجلس محسن محمد، الذي يقترب من العقد السابع من عمره، ليتذكر طفولته مع والده وبداية تعلم مهنة النقش اليدوي على النحاس قبل نحو نصف قرن، فهو ممثل الجيل الرابع لعائلته في هذه المهنة ومن أقدم شيوخها. بشغف لم يطفئه تقدم السن، يتحدث محسن محمد عن طريقة النقش اليدوي على النحاس ومراحلها الخمس، فيوضح قائلا “نستخدم النحاس الأحمر والأصفر في النقش، ونبدأ المرحلة الأولى من العمل باختيار القطعة المناسبة، سواء كبيرة أو صغيرة، حسب المطلوب والغرض”. ويضيف “بعدها نسوّي هذه القطع بوضعها على السندان، ثم الطرق عليها بالمطرقة لتتساوى جميع أجزائها، قبل أن ننظفها جيدا بفرشاة مخصصة لذلك لتكون ملساء”. والمرحلة الثالثة، وفق محمد “تتم من خلال الرسم بالفرجار (آلة هندسية) وقلم الرصاص على النحاس، لتحديد الشكل المطلوب، مع إمكانية استخدام أنواع أخرى من الأقلام، مثل قلم الحبر لتحديد أكثر الرسم”. بعد مراحل التسوية والتنظيف والتحديد تأتي المرحلة الرابعة، وهي الحفر اليدوي من خلال الطرق بالإزميل (عبارة عن أقلام من الصلب بأشكال مختلفة يتم الحفر بها) على الشكل المرسوم سابقا. خامسا وأخيرا قبل العرض، تكون مرحلة التلميع والصنفرة بفرشاة ومواد مخصصة لذلك، بحسب محمد، الذي يوضح أنه “يتم في النقش استخدام سبعة خطوط كتابة إسلامية، منها النسخ والرقعة، بجانب رموز من الكتابة الهيروغليفية (المصرية القديمة)”. يقول محسن محمد “تختلف المدة التي يستغرقها النقش على النحاس من يوم إلى يومين للفرعوني، ومن يومين إلى ثلاثة للنقش العربي حتى يخرج الشكل المطلوب”.بفن النقش الذي يعدّ من أبرز الفنون الشرقية والإسلامية والتي مازالت تحتفظ ببريقها ويضيف أن “الشكل الأخير بعد النقش يظهر في أوان نحاسية منقوشة بآيات قرآنية أو عبارات تراثية أو أشكال من الزخارف الإسلامية، أو في ألواح نحاسية عليها كتابات إسلامية، أو في نقش على المباخر والساعات النحاسية، بخلاف الأطباق النحاسية الفرعونية، التي تنقش عليها أشكال مثل الأهرامات وأبي الهول، وهذه الأشكال من أهم ما يقبل عليه روّاد الورشة”. ويشير محمد إلى أنه “توجد مصانع وورش تعتمد حاليا على الحفر الكيميائي للنحاس، عبر استخدام مواد كيميائية وأحماض في الحفر؛ لتوفير الوقت والجهد، فبدلا من أن يستغرق النقش العربي ثلاثة أيام، يتم عمله في ثلاث ساعات فقط”. ويلفت إلى أن الزخرفة والصور المنقوشة على الأواني النحاسية تختلف من محل إلى آخر؛ فهناك نقوش ورسوم ترمز إلى عصر معيّن وحقبة زمنية مختلفة “فرعوني وقبطي وروماني وفاطمي ومملوكي وعثماني”، ولكل منها سعرها وزبونها الذي يطلبها وهو ما أوجد كما هائلا من الأشكال الجمالية التي يشتهر بها الصانع المصري. أما في ما يتعلق بالتطعيم بالفضة، يقول محمد، إن ذلك يتم عن طريق عزل قطعة النحاس المراد تطعيمها بالفضة بمادة شمعية لا تتأثر بالأحماض، ثم يقوم النقاش بالرسم بواسطة أقلام النقش الفولاذية بمساعدة المطرقة والسندان. ويتم بعدها تحديد الشكل المطلوب حتى يسمح بوصول الأحماض إلى داخل جسم المعدن فوق الرسم المصمم، وتغطيسه في حمض الأزوت الممدد، وتركه لمدة ثم نقوم بإخراج قطعة النحاس من الأحماض ونغسلها ويتم تنشيفها ثم بعد ذلك يتم تركيب خيوط الفضة في هذه الشقوق التي تم حفرها، وذلك بواسطة الطرق الخفيف عليه”. مهنة تعاني المرض عن أحوال مهنته الآن، يتحدث نقاش النحاس المصري بنبرة فيها الكثير من الحزن قائلا “معظم من يمتهن هذه المهنة تركها في الوقت الحالي؛ بسبب عوامل من أهمها ضعف حركة البيع والشراء.. مثلا أنا ورشتي كان يعمل بها 18 عاملًا، وحاليًا تضم ثلاثة فقط”. ويتابع محمد “أولادي رفضوا العمل معي، والمهنة تمرّ بأسوأ أيامها، ورغم ذلك لن أتركها أبدًا، حتى وإن اشتد الأمر سوءًا، فهي مهنة أجدادي”. ولكي تستمر مهنة النقش اليدوي على النحاس، يقترح النقاش المصري أن “تقوم السفارات والقنصليات المصرية في الخارج بإقامة معارض دولية لعرض المشغولات النحاسية، إضافة إلى منح الأجانب هدايا من هذه المنتجات لجذبهم إلى مصر”. بجوار ورشة محمد، يقف مصطفى كمال، وهو شاب ثلاثيني، حاصل على درجة جامعية في القانون، داخل ورشته، التي لم يعمل بها إلا منذ ثلاث سنوات فقط، مدفوعا بتشجيع والده للعمل في فن النقش على النحاس. من ينقذ المهنة يشكو الشاب الثلاثيني من ارتفاع أسعار خامات النحاس، موضحا، أن “خامات الصنعة تزيد مع ارتفاع قيمة الدولار (الأميركي) أمام الجنيه (العملة المصرية)”. ويتابع “في العام الماضي كان كيلوغرام النحاس بـ85 جنيهًا (أقل من 5 دولارات) والريش (وهي آلة يستخدمها في النقش) بـ16 جنيها (أقل من دولار)، لكن هذا العام ارتفع سعر كيلوغرام النحاس إلى 175 جنيها (نحو 10 دولارات) والريش وصل إلى 20 جنيها (نحو دولار)، وهو ما يتزامن مع تبعات نتجت عن تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية في نوفمبر 2016”. وجراء ارتفاع سعر النحاس، مقارنة بمواد خام أخرى، كالألومنيوم، تحوّلت الأواني والمشغولات النحاسية إلى تراث بالنسبة إلى الكثيرين من المصريين، الذين قلّ إقبالهم عليها. ويوضح كمال أن “السياح العرب هم الأكثر شراء للمشغولات النحاسية، ويهتمون بمهنة النقش على النحاس”. ورغم تردّي أوضاع المهنة يقول الشاب المصري “لن أترك هذه المهنة، وسأطوّر عملي حسب متطلبات السوق”. ويعود تاريخ النقش على النحاس في مصر إلى فترات ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وتحديدا منذ عصر المماليك (1250 إلى 1517)، حيث اشتهر الإقبال على تزيين المباني، كالمساجد والمدارس والدور والقصور وسواها من المنشآت، بشتى ضروب الزينة والزخرف، وتهافت الناس على اقتناء الأشياء المزينة بالنقوش؛ فأدى ذلك إلى ظهور مهنة النقش على النحاس. نحاسون كثيرون تركوا المهنة ووفق عادل عامر، مدير مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والسياسية (غير حكومي)، فإن “أهم المشاكل التي تواجه أصحاب مهنة النقش على النحاس هي: تزايد أسعار النحاس بشكل كبير خلال هذه الفترة، ما أدى إلى هروب الكثيرين من أبناء المهنة إلى مهن أخرى نظراً إلى قلة الربح”. ويضيف عامر “هناك البعض من المصانع والورش تعتمد على الحفر الكيميائي للنحاس، وهو ما أضعف مهنة النقش اليدوي بصورة كبيرة؛ ودفع أصحاب ورش يدوية إلى مزاولة مهن أخرى”. ويشدد على “ضرورة أن توفر الحكومة المصرية معارض وأسواق للمهن التي شارفت على الاندثار، وفتح الأماكن الأثرية لعرض هذه المنتجات، إضافة إلى إقامة أسواق خارجية لتسويق تلك المنتجات التي تحمل روحي الفن والتراث”. ويقول معظم الحرفيين إنه منذ قيام الثورة وانهيار السياحة، انهارت معها المهنة، ويطالب هؤلاء من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي استيراد المواد الخام وتوصيلها إليهم دون جشع التجار ورجال الأعمال أو بعث جمعية تتولى ذلك. ويشير النقاش محمد إلى أنه من أجل المحافظة على هذه المهنة من الاندثار، بدأ في إنشاء ورشة عمل لتدريب الراغبين في تعلم هذه المهنة. ويقول إن “من يرغب في تعلم هذه المهنة في الوقت الحالي يتعلمها ليس من أجل استخدامها كمهنة تدر عليه عائداً مادياً، بل لأنه يحبها، وبالفعل بدأت في تدريب خمسة طلاب”. ويقول سامر فواز أحد الراغبين في تعلم مهنة النقش على النحاس “أنا أرغب في تعلم مهنة النقش على النحاس لأنها من المهن التي تتميز بالطابع الفني الإبداعي”. ويضيف “أريد تعلم هذه المهنة لأنني أحبها وليس لهدف الربح المادي، فأنا أعلم أن دخلها ضعيف، ولكن الرسم على النحاس بالنسبة إليّ فيه متعة كبيرة”.

مشاركة :