القاهرة: «الخليج» كان إيفو أندريتش (1892 1975) يتطور بعيداً عما يجري في الساحة الأدبية بيوغسلافيا، وقد رحب به النقاد فور ظهوره، وكان وفقاً لطبيعته الهادئة المنطوية بعيداً عن المناقشات الدائرة حول التيارات الأدبية المختلفة، وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، ارتبط الأدب بالمجتمع، وفي الفترة التي ارتبطت فيها يوغسلافيا ارتباطاً شديداً بالاتحاد السوفييتي كان الشعار السائد في الأدب اليوغسلافي هو «الواقعية الاشتراكية»، ويتلخص مضمونها في أن يكون الأدب انعكاساً للحياة في المجتمع الاشتراكي لا أن يكون انعكاساً للحياة على ما هي عليه.لكن تمرّد يوغوسلافيا على الاتحاد السوفييتي أدى إلى تغييرات في مجال الأدب، وبالتدريج أخذ الأدب اليوغسلافي يهمل النماذج الأدبية المستوردة، ونشأ صراع بين الأفكار والاتجاهات الأدبية المختلفة، ومن المؤكد أن حصول الأديب اليوغسلافي إيفو أندريتش على جائزة نوبل في الأدب عام 1961 كان نقطة تحول حاسمة في شد انتباه وأنظار المؤسسات الثقافية في العالم إلى هذا الأدب النامي المتطور، الذي أخذت بشائر نهضته تتضح حتى استوى أدباً قوياً، يزخر بمجموعة لا بأس بها من الأعمال الأدبية الجيدة، وبعد حصول إيفو أندريتش على هذه الجائزة الأدبية الرفيعة، أصبحت مؤلفاته ومؤلفات غيره من الأدباء معروفة في جميع أنحاء العالم، فقد تمت ترجمة أعمال أندريتش إلى ما يزيد على 40 لغة عالمية.ولد إيفو أندريتش عام 1892 بقرية دولاتس، بالقرب من مدينة ترافنيك المشهورة بمنطقة البوسنة والهرسك، وكان والده عاملاً بسيطاً يصنع طواحين يدوية للبن، لكنه فقد هذه الحرفة بسبب تلاشيها تدريجياً في الظروف الاقتصادية خلال الحكم النمساوي المجري، ثم حصل والده على وظيفة مكتبية، ثم وافته المنية مبكراً وكان أندريتش يبلغ من العمر سنتين.أصابت الحرب العالمية أندريتش بكثير من المحن، فقد اعتبرت السلطات النمساوية المجرية أن اتصاله بالشباب اليوغسلافي الثائر استفزازٌ لها، فاعتقلته وحددت إقامته خلال الحرب العالمية الأولى، غير أنه كان يدافع عن روحه ويحميها من الدمار بالعمل المستمر وبالقراءة والدراسة، وقد سجل أحداث هذه الفترة وأهميتها بالنسبة لحياته، في ديوانيه «إكس يونتو» 1918 و«القلق» 1920 وخلال سنوات الحرب كتب ثلاث روايات هي «جسر على نهر درينا تاريخ مدينة ترافنيك الآنسة والفناء الملعون» وبدأ اسمه يلمع ويظهر تأثيره في الأدب اليوغسلافي، ثم توالت مجموعاته القصصية «عام القلق عمر باشا العطش المرأة غير الموجودة علامات الأطفال المنزل المنعزل»، وغيرها من المجموعات والكتب النقدية.استلهم إيفو أندريتش أفكار وموضوعات رواياته وقصصه من منطقة البوسنة التي نشأ فيها، ومن ماضيها وتراثها الأدبي، ومن الروايات والأساطير القديمة، ذلك لأن البوسنة وقعت كثيراً تحت وطأة الغزاة الأجانب، ويدين سكانها بالأديان الثلاثة، وكانت مركزاً للتناقضات والصراع والحروب والاغتيالات، وكان إيفو أندريتش يمثل مرحلة جديدة ومتطورة في تاريخ الرواية اليوغوسلافية وتقدمها، وذلك بسبب تجديده وإيجازه وفلسفته العميقة، ففي مؤلفاته يعالج الأمور الكامنة في أعماق النفس البشرية ويحللها تحليلاً نفسياً، ويرسم الزوايا المظلمة من حياة البشر واللحظات الحرجة التي يتعرضون لها.ويشير د. جمال الدين سيد محمد في صدر ترجمته لرواية «الآنسة» إلى أن إيفو أندريتش يتمتع بموهبة خارقة، ويعتني أيّما اعتناء برسم شخصيات رواياته وقصصه بأسلوب يبرز تمكنه من اللغة وسيطرته عليها، فقد كان يدقق في اختيار كل كلمة وكأنه ينحت في الصخر، نحتاً يترك أثراً عميقاً في نفس القارئ، وكان يزن كل جملة ويحذف كل ما لا يلزمها، ولذا فإن معظم قصصه قصيرة، وتعتبر كل واحدة منها عملاً فريداً في نوعه.كتب إيفو أندريتش رواية «الآنسة» عام 1945 وتعالج عدة موضوعات في آنٍ واحد، فهي تعالج موضوع الفراغ والوحدة وتأثيرها على حياة الإنسان، وتعالج رذيلة البخل المعروفة معالجة جديدة، تضفي عليها الكثير من العناصر والأبعاد الجديدة والصور الحديثة، ويحلل أندريتش في هذه الرواية نفسية شخصية الفتاة «رايكا» البخيلة التي فقدت اسمها الحقيقي وأصبح أفراد المجتمع يسمونها «الآنسة» نظراً لانعزالها عنهم، بعد أن أصبحت أسيرة لشهواتها في جمع المال.وألقى أندريتش الضوء على دوافع هذه العزلة القاسية التي لجأت إليها هذه الفتاة، وعلى الأسباب التي دفعتها إلى ذلك، فقد نصحها والدها قبل موته بأن تكون قاسية تجاه الآخرين حتى لا تقع ضحية للاحتيال مثله، ونصحها بأن تقتل في نفسها كل الاعتبارات الإنسانية حينما يكون الأمر متعلقاًّّ بالمال، وسرعان ما أصبحت هذه الكلمات هي القائد والموجّه للفتاة الصغيرة.وأصبح الادخار والتقتير هو مذهب «الآنسة» ونهجها في الحياة، لكنه سيكون السلاح الذي يصوب إليها في النهاية، إنها لن تحقق حلمها بامتلاك أموال ضخمة، تمكنها من أن تنتقم أشد انتقاماً من الجنس البشري، بسبب مأساة أبيها، ولن تشعر بالمجاعة أثناء الحرب، لكنها ستصبح منعزلة عن مجتمعها وعن عائلتها، وتقطع صلتها بالعالم الخارجي وتبقى في النهاية وحدها مع نقودها.
مشاركة :