غادرت الرياض، في إجازة قصيرة، تاركاً متاعب وضجر الحياة اليومية من ورائي.. حزمت أمتعتي بعد أن استفزني هاجس يحذرني من غرائزي ومن أهوائي الخادعة، وأن العاطفة الروحية شيء والواجبات الدنيوية شيء آخر وكلاهما ينفر من الآخر، فاتجهت إلى هجر ذلك المكان الذي يقال إن ينابيعه قد نضبت أو بالأحرى جُفْفت. مع ذلك، بقيت ينابيع الحنان في صدر أمي تزخر بعمقها وغناها وتنوعها.. عشت أياماً لم أشعر فيها حتى بكاهل السنين على غاربي واكتشفت أنني كبرت في غفلة من أمي؛ فهي ما زالت تعاملني كطفل ولكن طفل مُكتهل، تغمرني بحبها وتسكب في جوفي مشاعرها على دفعات مترادفة أشبه ببطش سحاب تحدوه الرياح فيحيي أراضي ظمآى. تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من الحنان العمر بأكمله. أما أنا، فكنت أتلذذ بكل لقمه تصنعها بيديها الحنونتين، وأتقرب إلى الله بالنظر إلى نور وجهها، فتتلاشى كل المشاعر الخامدة بداخلي، وينتابني شعور من الاستغراق إلى حد نسيان نفسي. وكلما أمعن النظر في وجهها أهيم كشاب تقيٍّ رقيق القلب تعلَّق بأستار الكعبة متحرِّياً ليلة القدر، فأُبجِّل الله أكثر فأكثر. بل أدركت، ولأول مرة، أن رمضان ليس مجرد صيام وقيام وتبادل التهاني برسائل الجوال، تساءلت: لم يا رمضان لا تثير فينا سوى هذا القدر الضئيل من المشاعر تجاه والدينا! فإذا كان هذا الشهر الكريم لا يكفي لإيقاظ نفوسنا نحوهما فلا حول ولا قوة إلا بالله! أما أبي، فكنت أحياناً أجلس أستمع إليه وهو يتلو القرآن قبل الفجر، ثم أسير معه في الظلمات لصلاة الفجر، وأحياناً أجلس معه أتصفح صوري القديمة وهو يحدثني عن طفولتي وصباي، يستدعي خلالها ذاكرته بصعوبة فتأتي على فترات متفاوتة. وعجبت كل العجب؛ فقد بدوت في صوري شاباً مراهقاً متعجرفاً مغروراً مستهتراً، بشعري الطويل وهيئتي غير المبالية. مع ذلك، لا أذكر أبداً أن أبي كان يمطرني بوابل متواصل من النصائح؛ بل لم يكن حتى يرفع حاجبيه استنكاراً من أي عمل كنت أقوم به. ثم ضبطت نفسي متلبساً بهذا السؤال: يا إلهي! هل أستطيع أن أقدم هذا الشيء لأبنائي؟ فلم يكن جوابي شديد التثبيط كما لم يكن مجلِباً للثقة التامة! ولكن، نحن -يا معشر الآباء الجدد- نزيِّن جدران منازلنا ومكاتبنا وننشر على صفحات الإنترنت شهادات في براويز؛ لنثبت لأنفسنا وللناس أننا متعلمون. ولكن، ثم ماذا؟! لست أدري! لقد كانت أياماً رمضانية لا تُنسى، تخليت فيها عن جميع وسائل الاتصال الحديثة؛ من جوال وفضائيات وإنترنت، ولكن بقيت على اتصال دائم مع الله عبر أمي وأبي. بعدها، قفلت راجعاً إلى الرياض أجرجر أقدامي كأنني مشدود بحبل مطاط كلما سحبته إلى الأمام يرتد ويشدني إلى الوراء! حفظ الله لكم أمهاتكم وآباءكم، ورحم الله من قضى نحبهم رحمة واسعة.. رمضان حلّ هذا العام وأمي لدى الرفيق الأعلى.. يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين، اجعل قبرها روضة من رياض الجنة.. آمين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :