لم تقبض حكومات السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ولا شعوبُها أيضا، محاولة وكالة الأنباء القطرية إصلاح ما أفسده الأمير تميم بحديثها عن اختراقٍ لموقعها، وقولها إن تصريحاته مفبركة ومدسوسة. فقيام هذه الدول بحجب المواقع الإعلامية القطرية يعني أنها ترى في نشر تصريحات حاكم قطر، حتى بعد تكذيبها، عَرضَا مقصودا لعضلاتٍ سياسية (تهديدية) أراد بها أن يقول لحكام دول الخليج ومصر، وللرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبلهم جميعا، إن قطر أقوى منكم جميعا، وأعقل وأكثر نباهة وحكمة، فهي ترى، خلافا لكل ما قررتموه في الرياض، أن داعش ليست إرهابا، وحزب الله مقاومة، وإيران دولة عظمى لا بد من احترامها والقبول بسياساتها، ولا حكمة في اعتبار جماعة الإخوان وطالبان والنصرة تنظيمات إرهابية، وأن عقود السلاح التي وقعتموها مع ترامب هي التطرف بعينه. يقول الشيخ تميم: "العلاقة مع أميركا قوية ومتينة، على رغم التوجهات غير الإيجابية للإدارة الأميركية الحالية، مع ثقتنا بأن الوضع القائم لن يستمر، بسبب التحقيقات العدلية تجاه مخالفات وتجاوزات الرئيس الأميركي". وعن قاعدة العديد العسكرية الأميركية في قطر قال: "مع أنها تمثل حصانة لقطر من أطماع بعض (الدول المجاورة)، إلا أنها الفرصة الوحيدة لأميركا لامتلاك النفوذ العسكري بالمنطقة، في تشابك للمصالح يفوق قدرة (أي) إدارة أميركية على تغييره". وأكد أن قطر "نجحت في بناء علاقات قوية مع أميركا وإيران في وقت واحد، نظراً لما تمثله إيران من ثقل إقليمي وإسلامي لا يمكن تجاهله، وليس من الحكمة التصعيد معها، خصوصاً أنها قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة عند التعاون معها، وهو ما تحرص عليه قطر، من أجل استقرار الدول المجاورة". وبالأصل بدأت مشاكل قطر مع شقياتها الخليجيات بقصر نظر قطري منقطع النظير، أشبه بمن يجعل الحبة قبة. فقد كانت مشاكل حدودية بسيطة كان يمكن حلها بسهولة، وبثمن يقل، بآلاف المرات، عن الثمن المالي والسياسي والأمني والأخلاقي الذي أنفقته وما تزال تنفقه بسبب خوفها على نفسها من جيرانها، بشراء الجماعات الدينية المتطرفة، واستضافة القواعد الأميركية، واسترضاء الحكومة الإيرانية، إضافة إلى علاقاتها مع الإسرائيليين. هذا إذا لم نضع في الحسبان ايضا ضخامة المبالغ التي تحملتها وتتحملها الخزينة القطرية لتمويل الحملات الإعلامية الواسعة والمتواصلة ضد أشقائها الخليجيين والمصريين، وضد كل من يتعاطف معهم، ويختلف معها بشأنهم. وقد بالغت القيادة القطرية في جريها في "الاتجاه المعاكس" لمنطق التفاهم والتكامل والتضامن مع وسطها الخليجي في أعقاب انقلاب الإبن (الأمير السابق الشيخ حمد والد الأمير الحالي تميم) على والده الأمير الشيخ خليفة، عندما رفضت دول مجلس التعاون الخليجي ذلك الإنقلاب واعتبرته عقوقا وقلة أمانة. ولو أبقت الحكومة القطرية عقدة خوفها من جاريها السعودي والإماراتي في مستوياتها الدنيا التي تكون، في الغالب، مقبولة داخل أعضاء الأسرة الواحدة لتغير وجه الخليج تماما، وربما المنطقة بأجمعها، خصوصا وأن السعودية والإمارات والبحرين تجاوزت مسالة الانقلاب تلك، وتعايشت مع الوضع القطري الجديد، واعتمدت سياسة الاحتفاظ بعلاقات طبيعية أخوية مع قطر، بغض النظر عمن يحكمها،. وقد تكون استضافة السعودية والإمارات للأمير الأب المطرود ومرافقيه وبعض خاصته، بحكم تقاليد الأخوة والضيافة والاستجارة، هي التي أشعلت في الحاكم القطري مشاعر العداء الخفي والغضب الدفين، وجعلته يبحث عن حلفاء أٌقوياء يحتمي بهم ويؤمنون لحكمه حصانة رادعة تمنع "أشقاءه" من أن يفعلوا به ما فعل هو بوالده. من هنا بدأ الوهم الأكبر الذي وقعت فيه القيادة القطرية، وأسس لما بعده من أوهام وتداعيات وتعقيدات في علاقاتها مع السعودية والإمارات والبحرين. ولعل أكبر أخطائها كان في اعتقادها بأن الصغير يُصبح كبيرا إذا احتمى بالكبار، وبأن الاستقواء بالثعابين والتماسيح والذئاب المفترسة كفيل بتحويل الإمارة الصغيرة، بأرضها وشعبها، إلى لاعب إقليمي معتمد ومحترم ومهاب من قبل جيرانه الكبار. فقررت أن تهرب كثيرا إلى أمام. فجعلت من إمارتها التي يُشبهها المصريون بقرص "الطعمية" أكبرَ قواعد أميركا في الشرق الأوسط، وتحملت الكثير من نفقاتها. ثم التصقت بإيران وإسرائيل، وتمادت في احتضان المعارضات الخليجية والحركات الإسلامية المتطرفة التي تعادي السعودية والإمارات والبحرين، وتتآمر عليها، كالقاعدة والإخوان المسلمين والنصرة وحزب الله اللبناني. بعبارة أخرى لقد دجَّج الحاكم القطري جسمَه بالأحزمة الناسفة لإخافة خصومه (المفتَرَضين)، وهو لا يعلم بأن هذه الأحزمة ليست هي حزامَ الأمان الدائم لحاملها نفسِه، بأي حال من الأحوال. وهنا أصبح لزاما علينا أن ندع قادة الدول التسع والخمسين التي حضرت مؤتمر الرياض وتوحدت لمواجهة الإرهاب والتطرف والعنف واعتبرت إيران رأس حربة الإرهاب وساوت بينها وبين داعش والقاعدة والنصرة وحزب الله والحوثيين، وأن نتوجه إلى الرئيس الأميركي ترامب ونقول له: سيادة الرئيس، لقد حَمَّلت، في خطابك في قمة الرياض، إيران مسؤولية عدم الاستقرار في المنطقة، وقلت إنها "توفر الأسلحة والتدريب للإرهابيين والجماعات المتطرفة"، وأكدتَ على ضرورة العمل على منع إيران من تمويل المنظمات الإرهابية، ثم قلت: إن "إيران أشعلت، لعقود، نيران الصراعات في المنطقة"، ولكن الشيخ تميم لا يخالفك الرأي، فقط، في إيران وحزب الله وداعش وطالبان وحماس والإرهاب والتطرف والعنف، بل يعلن أنه لن يتخلى عن دعمه للقاعدة والإخوان وحزب الله وإيران وطالبان وحماس. سيادة الرئيس: هل تفسر لنا هذا اللغز العصي على الحل؟ هل تريدنا أن نصدق أن قطر حين تقوم، سرا وعلانية، وهي قاعدتكم العسكرية ومنطقة نفوذكم، بمخالفة سياساتكم، وتخريب مخططاتكم، ومشاكسة توجهاتكم، وأنتم لا تعلمون؟ ولا توافقون؟ وما هو رأيكم في قول أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إن علاقة "دولته" بأميركا أقوى من قدرة أي رئيس أميركي على تغييرها؟ أم إن هذه هي سياسة الولايات المتحدة المتوارثة ذاتُ الوجهين التي لن تستطيع تغييرها؟ مع الليل ومع النهار، وضد الليل وضد النهار، مع الخير ومع الشر، وضد الخير وضد الشر، مع الديمقراطية ومع الديكتاتورية، وضد الديمقراطية وضد الديكتاتورية، مع محاربة الإرهاب، ومع دعمه وتمويله واحتضان قادته، والترويج لأفكارهم وأخبارهم، على المكشوف أحيانا، وبواسطة مشيخة قطر، في أغلب الأحيان؟ إبراهيم الزبيدي
مشاركة :