دخل علينا الحبيب؛ لنرى الفوانيس النحاسية والمشكاوات الزجاجية، والأهِلة والنجوم الضاحكة، والمسبحات الملونة تملأ الشوارع، وتتلألأ في الفضاء بألوانها الزاهية، فتُلوح لقلوبنا المُتعبة بالسعادة والدفء والبهجة الغامرة؛ لتقشعر القلوب حنيناً إلى ليالي رمضان المُباركة، ودمعات العين التي تترقرق أثناء تراتيل القرآن الكريم، ونسائم صلاة التراويح وعبيرها المنتشر في أركان الروح، وتلاحم الأجساد في الصفوف والسجود كجسد واحد ينبض بقلبٍ محب. منذ طفولتي ونعومة أظافري الهشة، وعند اقتراب موعده الجليل، أسافر عبر دروب الذاكرة لأسترجع روحانياته المحفورة في جدار الفؤاد من ذهبٍ ونور أبدي لا يغيب أبداً؛ لأتذكر لحظة شراء أبي الحبيب -رحمه الله- التمر وياميش رمضان، وكأنني أراه أمامي بجلبابه الأبيض وعينيه البريئتين، وابتسامته الحانية وهو يُهاديني بالفانوس الجديد وكيس من الشموع الصغيرة. لأدندن بحنين إلى ضفاف الذكريات أغاني شهر رمضان التي تستوطن الروح "وحوي يا وحوي" و"رمضان جانا"، "أهو جه يا ولاد"، وتواشيح "النقشبندي" و"نصر الدين طوبار" التي تسمو بالروح وتُصبغ القلب بكل ألوان الفرحة والسعادة الجّمة؛ لأتذكر لحظات انتظاري لسماع جملة "مدفع الإفطار اضرب" عبر موجات الراديو التي تتراقص في بهجة غامرة، ومن ثم أذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت؛ لأضع الفانوس على الطاولة، وأركض سريعاً عبر أروقة البيت وأنا أنادي بصوت جهوري منتصر على قهر الجوع والعطش "الأذان يا ماما.. الأذان يا بابا.. يلّا عشان الفطار"، وجلوسنا أنا وأخواتي وأمي وأبي على مائدة الإفطار، ونحن نناول بعض أكواب العصائر والتمر وأطباق الطعام. لأتذكر حلقات العرائس "بوجي وطمطم" وصديقهم الصدوق "عم شكشك" وأصواتهم الضاحكة، ومسلسل "عمو فؤاد"، وكارتون سندباد البحري ومغامراته على السجادة المسحورة، وحلقات "المغامرون الخمسة" وحلولهم الفكاهية للألغاز المحيرة، وكارتون "بكار" في أحضان النيل في بلاد النوبة الحبيبة، وأغنيته الشهيرة "من قلبه وروحه مصري والنيل جواه بيسري" مروراً بـ "يا بلادي أنا امتى هكبر وأطول النخل وأقدر"، ووصولاً إلى تتر النهاية "يا أبو كف رقيق وصغير وعيون فنان محتار.. يا أبو ضحكة وصوتها في قلبه بيضوي ألف نهار.. شمس بلادك وجدودك بتسمي على حواليك.. شمس بلادك وجدودك بتبوس يا صغيري إيديك.. الكون مفتوح قدامك والدور جواه أحلامك.. هات ريشتك هات ألوانك.. وارسم على الأرض مكانك.. نرسم أول ما هنرسم نرسم لمه وأصحاب.. نرسم أول ما هنرسم نرسم قمرة وحصان وكتاب". لأسرح بالذاكرة إلى حصة الرسم في المدرسة، كراسة الرسم البيضاء والألوان الخشبية، وأناملي الصغيرة المُمسكة بالألوان وفُرشاة الرسم الحالمة بفرحة وشوق وحنين، وأتذكر رسمتي المُحببة إلى قلبي بكل تفاصيلها الوردية، جامع بقبة كبيرة مُضلعة ومئذنة، وبائع الكنافة والقطايف بجلبابه الأبيض وطاقيته الملونة وابتسامته المُفعمة بالحياة، والأطفال يركضون مُمسكين بالفوانيس والشموع الصغيرة، وزينة رمضان الملونة تمتد بين العمارات والبيوت القديمة، والفوانيس التي تتدلى من بواباتها الفَرِحة، كلوحةٍ مُزدانة بكل ألوان الحب والحنين والحياة. إنه شهر الرحمة والتقوى والغفران والعتق من النار، إنه النور الذي ننتظره ليملأ تشققات أرواحنا المُنهكة، وراحة القلب التي ننشدها بعد فترة طويلة من الألم والتيه والانكسار، وينبوع الماء الصافي الذي يُسقي صحراء النفس بماءٍ عذب مِزاجه تقوى الله ورائحته مِسك، والخُطى الثابتة التي تُصحح خُطانا المُتعثرة على طريق الحياة. إنه الطمأنينة التي تسكن القلوب الواجفة، والسكينة التي تملأ العقول المُضطربة المُتقدة ليل نهار، والدواء والترياق لكل أسقام الدنيا الفانية، وشريان الحياة الذي يدب جذوره داخل حُطام الروح، التي تستكين إلى الضعف والاستسلام، كلما داهمتها آلام الحياة وهمومها وكثرة أعبائها المتواصلة، فيجمع شِتاتها ويُضمد جراح قلوبنا الهزيلة؛ لنغدو فيه كالوريدات الطفلة التي تتفتح وتحبو تحت خيوط الشمس الذهبية بقلبٍ سليم لا تشوبه شائبة. لنرى الخير مجسداً في حروفه الحانية وعبير نفحاته ومِداد أيامه ولياليه المُباركة، فنرى الخلق وهم يرتدون من الخير جِلباباً، فنرى صناديق الخيرات يوزعها أبناء الخير على المحتاجين والمساكين في امتنان وبهجة غامرة، وقولهم كلنا مساكين فقراء إلى الله، وموائد الرحمن التي تسكب الفرح في قلوب المُتعبين، ونرى أكواب العصائر والتمر تُمرر على السيارات المارة بالطريق وقت أذان المغرب بمزيج من الدعوات والابتسامات المُشرقة. في شهر رمضان المُبارك حاوِل جاهداً ساعياً بكل ما أوتيت من قوة أن تُنصت لحديث روحك المُتعبة، واجِه نفسك بأخطائها وزلّاتها وتناقضاتها، ولملم زوايا وأركان نفسك المُغبرة على أرفف الحياة، اعفُ عن نفسك وتصالح معها بامتنان ورضا لكل محنة في قلبها ألف منحة من الله، واجعل من قلبك دليلاً وطريقاً، وبوصلة وحديثاً وحقيقةً، حقيقتك بخيرها وشرها، بكبريائها وضعفها، زكّ الخير بداخلك وانتزع بقع الشر والظلام من داخلك. أوقد قناديل الوصال بينك وبين الله في ليالي رمضان المُباركة، افتح أبواب قلبك المُغلقة، واربت عليه واربط عليه بحبال النور والرحمة، حرّر عنق أحلامك الباكية من الخوف والقنوط واليأس، وأرسلها إلى سماء الكون وأسكنها النجوم السابحة المتناثرة كاللآلئ المضيئة فيها، واستودعها من هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وأنت تناجي بروحك الله عز وجل، وتُرتل آيات التنزيل العزيز، من شرفتك الصغيرة. فهنيئاً لنا بقدومك يا شهر الخير ونفحات السماء، هنيئاً لنا لنرتمي على أعتابك داعين مُبتهلين خاشعين لرحمة الله التي وسعت السماوات والأرض، أدعوك يا رمضان أن تمسح الحزن والخوف عنا، وأن تُحرر مشاعرنا اليتيمة، وتحتضن قلوبنا التائهة وتُنير ظلمتها، وتُسكنها اليقين الذي لا تزعزعه رياح الظلم وإن اشتدت، وفتن الدنيا الزائفة وإن توهجت. أدعوك ألا تغادرنا سريعاً، وأن تزيح عن نفوسنا ثِقَل ذنوبها وأخطائها، أرجوك أن تُطهر جوارحنا العميقة، وأن تصلح وتُنقي سرائرنا ما ظهر منها وما بطن، أرجوك أن تعلمنا الصبر الجميل على الشدائد والرضا الدائم رغماً عن الألم، وأن تُبشرنا بما نرجوه، وأن تُبارك دماء الشهداء الحارة والأشلاء الطاهرة في كل مكان، وأن تجمع صفوفنا المُمزقة، وتُلوح لنا برفرفات رايات النصر والعزة والكرامة، وأن تقُص على الصغار حكايا الوطن والنضال والمقاومة ونصر الله القريب. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :