اعتمدت الفترة الأولى من عمر الدعوة الإسلامية على السرية والفردية، وكان التخطيط النبوي دقيقاً ومنظماً، فلم تكن دار الأرقم بن أبي الأرقم لمجرد سماع المسلمين نصائح ومواعظ وتعاليم الدين الجديد، بل كانت مقراً للقيادة، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزاً خاصاً، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم المربي حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم بالحيطة والحذر والسرية والانضباط التام. ومن معالم هذه المرحلة من عمر الدعوة الإسلامية الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على هذه السرية، وعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكوين مجموعات صغيرة من الصحابة، ليمكنها التخفي والبعد عن أعين كفار قريش، حيث يجتمع الرجلان والثلاثة في المكان الذي يضمن لهم السرية في التعبد وتعلم القرآن. واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم بن أبي الأرقم ينم عن رؤية خبيرة، وعين بصيرة، وقراءة واعية لطبيعة المرحلة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، والحكمة الأمنية تؤكد ذلك، حيث إن قريشاً لم تكشف يوماً المكان الذي يجتمع فيه محمد وأصحابه، رغم حرصها الشديد على وأد الدعوة في مهدها. فالأرقم بن أبي الأرقم لم تعرف مكة بدخوله الإسلام، بل إن إسلامه كان مستبعداً، حيث إن نسبه ينتهي إلى بني مخزوم، وهي نفسها القبيلة التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ فقد يكون معقولاً أن يسلم الأرقم، لكنه من تمام الاستحالة أن تكون داره مقراً للدعوة الإسلامية، لأنها بذلك تكون بين ديار الغريم القديم الذي طالما أعلن منافسة بني هاشم، وسينصرف ذهن مشركي مكة إلى أحد دور بني هاشم، أو بيت أبي بكر رضي الله عنه. وكان الأرقم بن أبي الأرقم فتى عند إسلامه، في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز تجمع الدين الجديد فلن تفكر في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو من أصحاب المال القادرين على الاستضافة، أو إلى بيت النبي نفسه عليه الصلاة والسلام.;
مشاركة :