سوف أتجنب في هذا المقال –قدر الإمكان- تكرار نفس الإشكاليات التي تطرح عادة عند تناول قضية الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، ربما يقوم الزملاء الأعزاء المشاركين معي في هذا الملف بتغطية هذا الإشكاليات وبكفاءة أكثر مني. ولأن الموضوعية العلمية تفترض أن يعلن الباحث (ذاته) منذ البداية، أقول: إن نقل أو ترجمة (ثقافة) إلى ثقافة أخرى أمر غير ممكن حتى كتابة هذه السطور، رغم ثورة الاتصالات والمعلومات وكل إنجازات الترجمة الإلكترونية، وذلك لأن الثقافة – كما يقول فيلسوف العلم (بسراب نيكوليسكو)– ناتجة عن (الصمت بين الكلمات)، وهذا الصمت غير قابل للترجمة. صحيح أن محاولات التحديث أدت إلى تقارب الثقافات المختلفة كما أدى التعدد الثقافي إلى اكتشاف ثقافتنا بشكل أفضل، وشجعت ثورة الاتصالات على ظهور الثقافة البينية– Intercultural، لكن كل ذلك لم يزد عن كونه التمهيد الضروري والأولي إلى (اجتياز الثقافة)– Transculturel ذاتها، الذي يعني– حسب نيكوليسكو في كتابه (بيان العبرمناهجية)-: (انفتاح كافة الثقافات على ما يجتازها ويتخطاها). واجتياز الثقافة هو (ثقافة المكان بلا مكان)، فضاء الصمت، وهكذا فإن (نواة الصمت) التي تبدو وكأنها (لا معرفة) هي (غور المعرفة) وعمقها، ولا يمكن التعبير عن الصمت بلغة الكلمات وإنما بلغة من طبيعة مختلفة يسميها (عبر - لغة) Trans – language، وهي لغة تلقائية مباغتة، تنبه آني، حدث مرتبط باللحظة الحاضرة. كيف نفسر كلام بسراب نيكوليسكو في قضية الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية؟ وهل هي مهمة مستحيلة؟ وليسمح لي القارئ الكريم في سرد هذه الواقعة –كما أخبرني بها المخرج الكبير صلاح أبو سيف رائد الواقعية في السينما المصرية- لأنها تضيء جوانب كثيرة فيما أحاول تفسيره وإثباته لاحقاً. صاحب فكرة رواية (بين السماء والأرض) لأديب نوبل (نجيب محفوظ) هو (صلاح أبو سيف) نفسه، فهو البطل الحقيقي للقصة الأصلية، حيث تعرض لموقف مأساوي –كاد ينهي حياته- هو وزوجته التي كانت حاملاً في شهورها الأخيرة أثناء ركوبهما المصعد لمباشرة الطبيب المختص، إذ انقطعت الكهرباء فجأة عن المصعد وأصبحا عالقين بين السماء والأرض بكل ما تحمله هذه العبارة من معاني إنسانية ووجودية، وقال لي أبوسيف بالحرف الواحد -في حوار نشر معه في مجلة القاهرة الشهرية التي كانت تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمناسبة فوز فيلمه (البداية) بجائزة كارلو فيفاري عام 1986– لقد واجهنا الموت ودارت بخلدنا المخاوف والأسئلة الوجودية، وقمنا بأول مكاشفة حقيقية للنفس التي كنا نهرب منها دائماً، ومارسنا طقوس الاعتراف بكل الأخطاء والذنوب المستترة، وبكينا بكاء مراً ونحن نطلب بلجاجة الرحمة والمغفرة من الله تعالى. هذا الموقف الذي تعرض له المخرج الكبير في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، وأنقذ بأعجوبة من الموت المحقق بعد أن سمع البعض صراخه واستغاثته بالصدفة، جعله يتوجه مباشرة لصديق عمره نجيب محفوظ ويطلب منه كتابة سيناريو لفيلمه الجديد الذي يجسد هذه اللحظة الوجودية كما حدثت بالفعل أو قل يقبض على هذه اللحظة الاستثنائية ويقتطعها من صيرورة الزمن. واستطاع محفوظ بالفعل عن طريق إضافة العديد من الشخصيات وتوزيع (ذروة اللحظة) على مواقف مختلفة بعضها كوميدي والآخر درامي أن ينجز هذا العمل الفني غير المسبوق في تاريخ السينما العربية، الذي فشل جماهيرياً حين عرض في السينما وقتئذ، ونجح نجاحاً منقطع النظير حين عرضه التليفزيون المصري في السبعينات من القرن العشرين. رواية صلاح أبو سيف أو فيلم نجيب محفوظ (لا فرق هنا) تنتمي إلى ما يعرف في الأدب العالمي ب(رواية اليوم الواحد) وهي من أصعب فنون الكتابة ما بعد حداثية- Postmodernism، حيث تستحضر لحظات الزمن الثلاث في لحظة واحدة فضلاً عن تداخل وتشابك أنواع من الزمن يصعب الفصل بينها مثل الزمن الوجودي والميقاتي والوجداني، –وحسب (بسراب نيكوليسكو)-: (الصمت بين الكلمات) هو زمن (اللا- زمن)– حيث تتميز تقنية السرد هنا بالإيقاع المباغت للزمن داخل الزمن والتركيز على (حفر الذات) أكثر من لغة الجسد. وتعتبر رواية (عوليس) لجيمس جويس أبرز مثال على هذا النوع من الروايات في العصر الحديث إذ صدرت عام 1922، ورواية (الأحصنة) لمايكل كننغهام التي حصلت على جائزة بوليتزر عام 1999، وجائزة بن– فوكنر، وتحولت لاحقاً لفيلم سينمائي بطولة نيكول كيدمان وميريل ستريب وجوليان مور، وأيضاً رواية (الرمز المفقود) لدان براون التي صدرت عام 2009 وطبعت 6.5 ملايين نسخة قبل صدورها، وهو رقم قياسي في تاريخ النشر العالمي حتى اليوم. لسان العرب والاستشراق الجديد خلاصة الدرس المستفاد من (رواية اليوم الواحد) التي عاشها أبو سيف وكتبها محفوظ وجويس وكننغهام وبراون وغيرهم، أجملها في هذه الملاحظات: أولا: التجارب الإنسانية قد تتشابه وتتكرر رغم اختلاف الزمان والمكان، ذلك لأن هناك عقلاً إنسانياً واحداً، وحضارة إنسانية واحدة. وهذا لا يلغي في نفس الوقت الخصوصيات الثقافية والهويات والسمات الإبداعية الفريدة والمتميزة. والنموذج الأكمل لهذه الحضارة الواحدة هو النموذج الراهن الذي تشكل من روافد حضارية مختلفة -مصرية ويونانية ورومانية وعربية وإسلامية وشرقية- وإن تكاملت وانصهرت ونضجت جميعاً في عصرنا الحالي. هذه الحضارة الراهنة ليست هي -الآخر- بل هي بعد من أبعاد (الأنا)، إن لم تكن هي (الأنا) الضروري. فـ(الأنا) موجود في هذا (الآخر) الحضاري، واقعاً تاريخياً، وإمكاناً وضرورة مستقبلية. و(الآخر) موجود في (الأنا) بما يضيفه إلى عصرنا من علم وفكر وفن وتكنولوجيا وثقافة بشكل عام. ومن ثم فلا تعارض بين (الأنا) و(الآخر) من حيث جوهر الحضارة المعاصرة. ثانيا: (إبداع) الجيل الجديد من شباب الأدباء والفنانين والكتاب في العالم العربي، لا يقل أهمية ومكانة و(حداثة) –وما بعدها– عن إبداع نجيب محفوظ نفسه، وعما يصدره المبدعون في جيلهم في العالم كله، شرقه وغربه، على عكس كل ما يقال عن ضعف الإنتاج كماً وكيفاً وتواضع قيمة الإبداع العربي المعاصر، ناهيك عن محاولات (جلد الذات) في مختلف مجالات التعليم والثقافة والإعلام والنشر. وربما يلاحظ المهتمون باللغات وآدابها والأدب المقارن أنه رغم محاولات تحجيم الحريات في مجالات التعبير والنشر (خصوصاً في المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية)، فإن هناك طفرة في دور النشر الخاصة وهامشاً أكبر من الحرية بالإضافة إلى وسائل التعبير الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي لا سيما المدونات والصفحات الخاصة علي شبكة الإنترنت التي أتاحت للأكاديميين والنقاد والمستشرقين الجدد متابعة الإبداع الجديد في العالم العربي مباشرة (ودون وساطة نقدية أو صحفية) تمهد وتقدم للعالم هذه الأعمال الجديدة. ثالثا: أن نزعة الاستشراق الجديد بالنسبة لكل ما هو (غير غربي) لم تتخلص بعد من أخطاء الاستشراق القديم، فقد تحددت هندسة الشكل، أو العلاقة بين (الذات) و(الآخر)، كما قال (كلود ليفي شتراوس) بأن الدائرة ليس لها سوى مركز واحد (الغرب) وبالتالي فإن الناقد أو الباحث في الغرب حيث يدرس (الآخر)، ليس من أجل أن يكتشفه في (اختلافه) كآخر، وإنما يدرسه ليؤكد فيه كل ما يثبت ويعيد إنتاج (مركزيته)، مقابل إعادة إنتاج (هامشية) الآخر. وهو ما يتضح من نوعية الموضوعات والتيمات التي تقبل على ترجمتها (وتحتفي بها) دور النشر في الغرب مثل قضايا: (رهاب الإسلام) أو الإسلاموفوبيا والأصولية والإرهاب الديني والقضايا الجنسية للمرأة بدءاً من الختان وانتهاء بزنا المحارم فضلاً عن سائر المكبوتات والمحرمات والتابوهات وغيرها، بينما لا تلتفت دور النشر أو النقاد والمستشرقين إلى الموضوعات الجديدة والتقنيات الحديثة وأساليب الكتابة العصرية التي يبتكرها جيل جديد (غير مسبوق) من الشباب العربي (من الجنسين). رابعاً: لا توجد دراسات علمية جادة حول دور النشر في العالم الغربي فضلاً عن (سوق النشر) وآليات الدعاية والإعلان والإعلام أو الترويج للإبداع المترجم عموماً، كما أنه لا توجد أبحاث أو استطلاعات للرأي عن (الذائقة الثقافية) –الجديدة والمتجددة- للقارئ الغربي وميوله الأدبية والفنية. وتلك– في تصوري أهم معضلة يجب أن نبدأ منها ونعالجها حتى لا نغرق في دوامة لن نخرج منها (من المساجلات النظرية) حول آليات الترجمة وفنونها من وإلى اللغات المختلفة، وننسى أن هناك نوعية مختلفة تماماً من سوق النشر العالمي اليوم له شروطه الخاصة جداً يجب أن نراعيها، ومجموعات مختلفة من الزبائن والمستهلكين للثقافة وسلعة الكتاب لهم خصائص معينة يجب أن نعمل وفقاً لشروطها، لا سيما وأن عملية التسويق اليوم أصبحت معولمة في ظل الشركات المتعدية للجنسيات والعابرة للقوميات ويكفي أن نعرف أن ميزانية شركة مثل (أمازون)– Amazon تعادل ميزانية مجموعة من الدول الأوروبية والأفريقية. خامساً: لابد من إنشاء مركز (عربي) عصري للترجمة والدراسات والنشر وليكن تحت اسم (لسان العرب)، يضم نخبة من أساتذة الجامعات المرموقين والنقاد العرب والأجانب، لمتابعة الإنتاج العربي كماً وكيفاً وسوق النشر في الغرب واحتياجاته وشروطه في نفس الوقت، ويصبح (همزة الوصل) بين العالم العربي والعالم الغربي وتلك هي أفضل طريقة –من وجهة نظري- لمجابهة الاستشراق الجديد، بدلاً من الاكتفاء بمهاجمته لنريح ضمائرنا وانتهى الأمر. (القوة الناعمة) في عصر العولمة أهم بكثير من الجيوش الجرارة أو الحروب الاقتصادية، وترجمة الإبداع العربي إلى اللغات الأجنبية من أجل تقديم صورتنا على حقيقتها (وليس كل ما هو شاذ وغريب فينا) للغرب أو للآخر عموماً ضرورة حضارية ملحة، لأن (الثقافة) وحدها هي العامل الحاسم في مستقبل العلاقات الإنسانية والصراعات الدولية في الألفية الثالثة، الأهم من ذلك أن الإنسانية مقبلة على مرحلة غير مسبوقة من (انفتاح كافة الثقافات على ما يجتازها ويتخطاها) كما يقول (بسراب نيكوليسكو).
مشاركة :