في يوليو 1965 قرر غابرييل غارسيا ماركيز -المشهور باسم (غابو) عند الذين كرموه جميعاً - أن يعزل نفسه في بيته الواقع في كاليه دي لا لوما في المكسيك. وأمر زوجته ببيع السيارة، وشراء ما يكفي من اللحم من الجزار. ولمدة 15 شهراً، عكف على الطباعة بسبابتيه لست ساعات يومياً في غرفة سمَّاها (كهف المافيا). في الخامسة مساء، كان يخرج إلى الضوء الخافت وعيناه على اتساعهما وكأنه كان يتحاور مع الموتى. وبين الجدران الأربعة لهذه الغرفة استقرت دلتا نهر ماجدالينا، والبحر الرمادي كثير الزبد لساحل الكاريبي الكولومبي، والمستنقعات الخانقة لمدينة سياناجا، والأشكال الهندسية الضخمة لمزارع الموز، والسكك الحديدية المترامية الأطراف التي تخترق حنايا قلبه، وآل بها المآل إلى قرية أراكاتاكا التي أصبح اسمها الآن (ماكوندو) حيث أنشأه جداه محاطاً بالمنقبين والداعرين والغجر والمتسولين والعذارى المُنكبات على أنوال الحياكة. في هذه الغرفة حيث عزل نفسه بعيداً، استنشق عبير الحلوى المصنوعة بالحليب والبرقدوش الذي كانت تصنعه جدته، واستوعب الغضب السياسي لجده الذي حارب إلى جوار الليبراليين في حرب الألف يوم، وصحبه، في بداية الكتاب، لاستكشاف الجليد الذي اتخذ هيئة كتلة هائلة من الأشكال الإبرية التي جمدت يداه كلما مسها. مئة عام من العزلة يُعد ماركيز من أعظم المؤلفين باللغة الإسبانية على مر العصور, وهو الذي أحدث طفرة في جميع أنحاء العالم في الأدب الإسباني والواقعية السحرية مع روايته (مئة عام من العزلة), بيعت 50 مليون نسخة من هذه الرواية, وترجمت إلى أكثر من 30 لغة. ولاحظ النقاد أن أسلوب ماركيز الذي أطلقوا عليه الواقعية السحرية لم يكن جديداً؛ فقد تحسس الشاعر الأرجنتيني الكفيف خورخي لويس بورخيس طريقه عبر هذه المتاهات من قبل. لكن الشهرة التي نالتها هذه الرواية كانت مذهلة. فقد أُسِرَ العالم بأمريكا لاتينية تعيش فيها عائلة بوينديا التي تموج بصراعات وضغائن من الداخل والخارج؛ صراعات وضغائن أسلحتها البنادق أو الصمت لأجيال طويلة؛ أمريكا لاتينية أملى فيها الموت على ضحاياه من النساء أن يحكن أكفانهن، ودماء المنتحرين بالرصاص تسيل في شتى أرجاء قرية ماكوندو متجنبة البُسُط بعناية؛ أمريكا لاتينية ترقى فيها ريميديوس الجميلة إلى الفردوس بينما تعلق الملاءات على حبال الغسيل. وكانت كل هذه المشاهد حقيقية, هكذا أصر غابو رداً على الذين وجدوا عالمه عتيقاً ومستحيلاً. احتفظ ماركيز خلال الفترات الفاصلة بين رواياته بمهنة الصحافة التي امتهنها حيث نشر فضائح الحكومة والإرهاب الممول بالاتجار في المخدرات بجسارة وجرأة. وعندما أصاب شهرة عظيمة، أرسلته الحكومة الكولومبية كي يقوم بدور الوسيط بينها وبين عصابات القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC). ولم تقل هذه الوساطة سيريالية عن أي شيء خطه بيمينه في بيته في كاليه دي لا لوما. ماركيز يحصد جائزة نوبل قال ماركيز لجمهوره أثناء تسلمه جائزة نوبل عام 1982 إن ما لم يستوعبه العالم حيال الأدب الأمريكي اللاتيني هو حضور أشباح الغائبين فيه الذين يضارع عددهم سكان مدينة أوبسالا السويدية والمهاجرين والمنفيين الذين لا يقلون عدداً عن سكان النرويج. كانت هذه الأشباح بواقعها المختلف ملحة إلحاح جمال القارة الأمريكية اللاتينية وعنفها وألمها. في العام التالي لمولده، قُتل عدد لا حصر له من العاملين في مزارع الموز على يد الجيش في أراكاتاكا، ونقلت جثثهم في صمت مطبق بالقطار إلى الساحل لدرجة أن القصة أمست أسطورة على الفور. وطاردته هذه القصة في الكبر. وظل ماركيز يتعاطف مع اليسار الليبرالي في كل شيء. باتت كولومبيا مضطربة تحت قيادة الجنرال روخاس بينيلا، فالتجأ إلى المكسيك عام 1961، ولسنوات مُنِعَ من الدخول إلى الولايات المتحدة. وتباهى فيدل كاسترو وهوجو شافيز بصداقتهما لـماركيز. فكان يخرج في رحلات للصيد مع كاسترو، ويتبادل أطراف الحديث معه عن الكتب والأعمال الأدبية دون التطرق للسياسة. لكنه كان ضعيفاً إزاء (هالة السلطة) أيّاً كان لونها، ومتحيزاً للمستبدين القدامى الذين ما برحت أجسادهم تحمل آثار الطلقات النارية، شأنهم شأن سيمون بوليفار في (الجنرال في متاهته)، وتلازمهم ذكريات أمجادهم القديمة وحُلاتهم العسكرية الباهتة المصنوعة أزرارها من ذهب أتاوالبا، آخر ملوك الإنكا. كانت الكتابة شاقة؛ فالكلمات تخرج موجعة وجع حصاة الكلى. ومع ذلك، لم يكن هناك أي شيء خلاف الكتابة يريد أن يشغل حياته به. كان يشتاق (للكتابة كي لا يموت). وبدأت الرغبة في الكتابة تراوده عندما قرأ (ألف ليلة وليلة) في طفولته، وقصة السمكة وشقها تمهيداً لشويها، والماسة التي في أحشائها بحجم اللوزة. رسخت هذه القصص في مخيلته إذ كان صحافياً وطالباً غضاً يتردد على مقاهي بارانكيلا وكارتاجينا حيث اكتشف كافكا وفوكنر وولف وهيمنغواي. لكن، ظلت جدته صاحبة الأثر الأعظم عليه؛ جدته التي أخبرته بوجهها الخالي من التعابير أن أغرب الأشياء حقيقية. استقلال القارب البخاري لم تفرق هذه القصص بين حالة اليقظة والحلم, كانت شخصياته، شأنه تماماً، مصابة بالأرق والخوف من الظلمة ومعذبة بذكريات جنينية وأحلام منذرة بكارثة. وكانت أزماتها حادة جداً لدرجة أن أيامها على الأرض بدت منفصمة ولانهائية كأمطار الشتاء. ورغم ذلك كان العشاق في رواياته، في غمرة سعادتهم ونشوتهم، يعيشون في حالة الانقطاع نفسها. تنتهي آخر رواية رائعة له، (الحب في زمن الكوليرا)، المستلهمة من قصة الحب المحرم التي جمعت بين والديه، بالعاشقين العجوزين على متن القارب البخاري ماجدالينا الذي يشق طريقه عبر أزهار اللوتس الأرجوانية مروراً بالتماسيح التي تفتح فاهها لتتصيد الفراشات. لكن جده قال له عندما شاهدا هذا الأفق للمرة الأولى إنه (ما من شاطئ على الجانب الآخر). ماركيز وفتح الأبواب الموصدة لقد فتح ماركيز، وربما بصورة غير مباشرة، الأبواب لغيره من الكُتّاب لاستخدام سبل رؤية وحكي لم تكن الأنماط الواقعية الجارية لتسمح بها. في رواية (المحبوب) Beloved للروائي توني موريسون، يحكي عن عائلة من الرقيق هربوا في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية. هذه المقارنات تطرح سؤالاً آخر مفاده: ما مدى فائدة مصطلح )الواقعية السحرية(؟ هل نتماشى مع ما عليه العالم أم ما تسمح به طريقة وصفه؟ لقد صيغ هذا المصطلح في عام 1925 من قِبَل مؤرخ ألماني، وكان تطبيقه على أدب أمريكا اللاتينية، الذي ذاع الآن على نطاق واسع، مثيراً للجدل. عقد غارسيا ماركيز صداقات مع كُتّاب مثل كارلوس فوينتس وجوليو كورتازار وفارغاس يوسا – وهي الصداقة التي انتهت في السبعينات بعد أن وجّه فارغاس يوسا لكمة لماركيز أطاحت به أرضاً خارج إحدى دور السينما في مكسيكو سيتي.
مشاركة :