«حنين» 1997-2017: آخر الأحلام الفنية الكبيرة

  • 6/2/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كان من الصعب أن يجد المرء في مدينة «كان» في الجنوب الفرنسي، خلال الأيام الفائتة التي شهدت انعقاد الدورة السبعين للمهرجان بالتحديد، مجموعة من الناس أشد صخباً وحراكاً من المجموعة العربية، مشرقية كانت أم مغربية، لاهية أو تحاول عملاً. فالموسم موسم المهرجان السينمائي الدولي. الموسم الذي يحضر فيه السينمائيون والصحافيون وأهل مهن الصورة إلى تلك البلدة البحرية الساحرة ليلتقوا ويتنزهوا ويعرضوا أفلامهم، وبالطبع ليشاهدوا أفلام الآخرين، وأكثر من هذا: أحوال الأمم الأخرى كما ترويها الأفلام السينمائية، وأحياناً غير السينمائية أيضاً– أفلام الإنترنت والأعمال التلفزيونية. ولأن فنون الصورة هي أكثر الفنون في عالم اليوم ارتباطاً بكل أنواع الراهن، السياسي والاجتماعي والفني وحتى الاقتصادي، من المؤكد أن ما تقدمه «كان» هو اليوم، مرآة للعالم. ولكن إذا كان هذا التأكيد ينطبق على مناطق عدة من العالم تعرض هنا ما عندها، فإن المؤسف هو أن ما يعرضه العرب، في مجموعهم في هذه الدورة من كان، يبدو قاصراً جداً عن أن يعطي تلك الصورة التي قد يحب عالم السينما أن يشاهدها عن عوالم العرب الحقيقية في وقت تزدحم فيه شاشات العالم الصغيرة بصور قد يحب المرء أن يفيق يوماً، ليكتشف أنها ليست أكثر من صور كابوس كان يشاهده فيما يرى النائم! لكن الحال لم تكن دائماً على هذه الشاكلة. ولئن كانت دورة هذا العام من المهرجان السينمائي الدولي تحمل رقماً مدوّراً يُحتفل به عادة، هو الرقم سبعون، فإن ما لا مفر من أن تستعيده الذاكرة، في هذا السياق، هو دورة سابقة وصلت فيها الأحلام الفنية، وربما السياسية والاجتماعية، ولمَ ليس الاقتصادية العربية إلى ذروتها، ومن خلال السينما تحديداً. كان ذلك قبل عشرين عاماً، يوماً بيوم. في شهر أيار (مايو) 1997، أي عام الدورة الخمسين من نفس المهرجان. كان ذلك هو العام الذي منح فيه هذا الأخير السينمائي الكبير الراحل لاحقاً، يوسف شاهين جائزته الأرفع: السعفة الذهب لخمسينية المهرجان، لتكون أرفع جائزة حصل عليها سينمائي عربي في أي مكان في العالم حتى اليوم. كان ذلك العام بالتحديد أيضاً، العام الذي عرض فيه شاهين نفسه وفي المسابقة الرسمية للمهرجان، واحداً من الأفلام العربية الأكبر طموحاً، من الناحية الفكرية على الأقل، «المصير» عن فصول من حياة فيلسوف قرطبة الأندلسي ابن رشد. ولقد تضافر هذا يومها مع حضور عربي لم تشهد أية دورة سابقة ولا لاحقة من «كان» ما يماثله لا في كثافته ولا في جديته. خلال الدورة كانت شوارع المدينة الفرنسية ومقاهيها وأروقة قصر المهرجان وصالاته، تبدو وكأنها تحولت مستوطنة عربية حقيقية، حيث ينتشر عشرات المبدعين والنقاد والصحافيين يتقاطعون مع شبان آتين حديثاً إلى عالم الفن السابع، وفضوليين يكتشفون فناً حقيقياً ينظر إليه العالم كله باحترام بعيداً من أبوية سابقة، أو احتقار لا مبرر له. وكان هناك عدد كبير من أصحاب مشاريع آتين من المشرق والمغرب يبحثون عن موزعين أو منتجين. كانت السينما العربية، في خضمّ ذلك كله، تبدو مشروعاً بالغ الجدية والأهمية لنمط معين من الحياة العربية. وكان أهل المهنة لا يزالون واثقين من أحلامهم الكبيرة ساعين من خلالها إلى تغيير العالم... كان كل شيء ممكناً ومأمولاً في ذلك العام الذهبي الذي وقفنا في سهرته الختامية صفوفاً متراصّة من حول يوسف شاهين وهو يتناول تلك الجائزة السامية التي كانت اعترافاً عالمياً، ليس به وحده، بل بالسينما العربية التي بدا في ذلك الحين أنها، والمجتمعات العربية التي تعبر عنها، قد بلغت سن الرشد أخيراً. غير أن الصورة هذه لن تكتمل إن لم نتوقف في الختام عند ذلك العنصر الجديد الذي طرأ يومها ليعطي الحدث العربي الكانيّ الكبير نكهة لم نكن بعد قادرين على إدراك أهميتها: الفضائيات العربية. فهذه كانت أيضاً في الصورة. تلتقط الصورة وتشكل جزءاً منها. الجزء الذي سيتبين لاحقاً أنه بات الأساس. ففي ذلك العام كل الفضائيات العربية تجمعت في «كان» شاهدة على انطلاقة الأخت السينمائية الكبرى محتفلة بها مرحبة بكل ما يثار من حولها. وكان حتى بعض ذوي الشأن من أصحاب المحطات أو من مسؤوليها الكبار، حاضرين هم أنفسهم يتابعون ما يحدث ساعة بساعة. بل لا نزال نذكر واحداً من أكبر أهل الإعلام العربي، دأب بنفسه يومها على الاتصال حتى بأكثر النقاد تطلباً، عارضاً عليهم أن يظهروا في محطته ليتحدثوا ما يشاؤون عن الأفلام التي يشاؤون مقابل مكافآت قد يسيل لها اليوم لعاب كبار النجوم! في اختصار كان ذلك العام عام الذروة في ما وصل إليه احترام العالم الخارجي والعالم العربي لسينمانا، بما في ذلك قوم لم تكن لهم أية علاقة بالفن السابع من قبل. والسؤال اليوم: أين تبخرت تلك الصورة المدهشة؟ وكيف خبت تلك الأحلام الكبرى؟ وأين صار أهل العام 1997 الطيبون الذين فكروا يومها بأن السينما العربية ستكون مذّاك وإلى الأبد تلك القضية الاجتماعية والفنية والسياسية التي آمنا بها وظللنا نؤمن حتى رأيناها تتسلل فالتة من بين أصبعنا المرتجفة؟

مشاركة :