على مبعدة من الصخب والضجيج نأى محمد الفهد العيسى بقيثارته يرتاد بها أفقا شعريا جديدا، ولم يكن ليهمه حين عرفته بلاده شاعرا أن يخلص لما سوى الفن، وكان في ذلك مغامرا، وكان مقداما جريئا، وأذاع في الناس شعرا يهيم فيه بصحرائه، وكأنه يصغي إليها سمعه، ويجدد العهد بها، بعد أن أعرض الشعراء عنها. وفي بدء صلته بالشعر أحس النقاد أنه تخير طريقا يبعده من دعاوى التمذهب لعقيدة في السياسة أو الاجتماع، كان يهمه أن يقيم جسرا بينه وبين الفن، ولما تهيأ له ذلك ما كان ليعنيه إلا الوفاء للفن وإلا الوفاء لشروطه، وجاءت قصائده على غير ما يريد النقاد، وأحسبها جاءت على ما يريده الفن، وأدرك نقاده، في بداءة حياته الشعرية، ذلك، وتمنى عبد الله بن إدريس لو قرن الشاعر قصيده بالحياة، وعساه بذلك يوفق بين الفن والحياة، وابن إدريس يقول هذا ودنيا العرب ليس لها من هم قبل سنة 1380 هجرية إلا أن تصل الفن بالحياة، وليس للشعراء حتى يرضوا نقادهم إلا أن ينزلوا على شرط «الالتزام» و«تهديف الأدب» إلى آخر تلك الحدود والسدود التي أقام جدرانها نقاد الواقعية، على ما بينهم من تباين. وأحسب أن ابن إدريس أدرك ما انطوى عليه شعر محمد الفهد العيسى، وأن شاعره كأنه يعيد اكتشاف الأشياء من جديد، ولعله أحس في شعره اختلافا عن شعر جيله الذي ينتمي إليه، فتمنى على الشاعر أن لا يهدر قواه في شعر لا يتخذ الحياة سبيلا له. ولا لوم على ابن إدريس فيما جهر به، ما دام نقاد الأدب، في تلك الحقبة، لا يرون الأدب أدبا إلا إذا تدرع بنحلة في السياسة أو الاجتماع، وخيرا فعل محمد الفهد العيسى إذ لم يسمع إلى صوت النقاد واستمع لصوت الشاعر. اختار محمد الفهد العيسى لنفسه اسم «الفهد التائه» ووقع طائفة من قصائده بهذا الاسم، وعلى ما في الاسم من إيحاء رومنطيقي، فإنه يلخص لنا تجربة شاعر أراد لشعره النجاة بعيدا من القيود، وأراد أن يتيه في صحرائه، صحراء الشعراء والفنانين، وتحقق له ذلك فكان صوته يناجينا بشعره وفنه، دون أن يشغلنا بشيء إلا الفن، يصوغ إبداعه على وفق القصيدة القديمة، حينا، وينشئه شعرا جديدا، حينا آخر، وفي هذا وذاك لم يكن ليعنيه إلا أن يكون شاعرا فنانا. وفي الحق أحس قراؤه وأحس نقاده تميزه وغرابته، ولا سيما حينما أخرج للناس ديوانا يحمل اسما غريبا دعاه «ليديا»، ولعل القراء أحسوا أن «الفهد التائه» كان قد اختار طريقا لا يشبه أساليب من اعتادوا من الشعراء، ولعل محمد الفهد العيسى أسعده هذا الإحساس، أن يكون غريب الشعر، ولكنه لم يشغب بشعره، ولم يسع به إلى سوق النقد، فهو لا يريد لنفسه إلا أن يكتب شعرا، فذلك قدره، لكن النقاد العرب قرأوا في شعره ما يجعله جديرا بمكانة يستحقها، ويعنيني، هنا، كلمة خاطفة قررها الناقد العراقي علي جواد الطاهر، وفيها رأى في شعر محمد الفهد العيسى ما يستحق أن يخرج به خارج حدود بلاده. لم نعتن كثيرا بشعر محمد الفهد العيسى، وفوتنا على أدبنا الانتفاع به، وشاء له القدر أن يقرأ شعره ناقد عربي كبير، فكتب رجاء النقاش مقدمة لديوانه «الإبحار في ليل الشجن» بسط فيها القول في فن هذا الشاعر الكبير، ولم يكن النقاش، وهو يقدم ذلك الديوان، يسوق عبارات فيها مصانعة لشاعر سفير، لأنه لو رام ذلك لأجزأته صفحة أو صفحتان، لكن رجاء النقاش، وهو ناقد بصير بالشعر، فسح لقلمه المجال، وبسط تلك المقدمة حتى لكأنها كتاب برأسه، وكان القدر حفيا بالشاعر، إذ ساق إليه ذلك الناقد الكبير، ومن البين أن رجاء النقاش وجد في شعر محمد الفهد العيسى طلبته ورغبته، وجد فيه أسمى ما يرنو إليه الأديب الفنان أن يكون أديبا إنسانا، وكان «الفهد التائه» ذلك الشاعر الذي نقرأ في رومنطيقيته شيئا مما قرأه رجاء النقاش، حين استدل على أعمق ما اختص به محمد الفهد العيسى فنانا وإنسانا.
مشاركة :