"وتبقى كماني الحطام تئن وتعزف للقبر لحن النشيد وتبقى حياتي من الذكريات صدى بين شعر وأوتار عود" (الفهد التائه) يستطيع أي قارئ للشعر السعودي أن يرى في شعر (الفهد التائه) محمد الفهد العيسى ريادة، خارج التخرص الإعلامي والطنطنة الأكاديمية، من خلال قراءة تجربته الشعرية منذ عام 1962 حتى 2013 دون غفلان التجربة الغنائية منذ عام 1952 حتى 1990. ودواعي هذا الكلام بسيطة تتحقق في الأسباب التالية: استقلاله الشعري عن البناء على التجارب العربية. استمرار تطور شعره تصاعدياً بلا أدلجة الشعر ولا اعتباره نزوة مراهقة. ابتعاده عن فخ الترويج الإعلامي والصراخ الأكاديمي النجاح المهني ناتج عن جدية وحافز انعكس على مستواه الشعري ومداه. وبرغم ملاحظات عجولة من أحد مجايليه وهو الشاعر عبدالله بن إدريس الذي قال عنه: "شاعر عاطفي ذو طاقات فنية رائعة لولا أنه قد جعل لعاطفته السطان المطلق في استغلال تلك الإمكانيات الشعرية في إطار الذاتية المحدودة غير حافل كل الحفول بما يعتمل في محيطه والمجتمع الإنساني الكبير من تعاسات وشقاء وآمال وآلام، وحبذا لو أنه خدم بفنه الفن والحياة معاً، وقلل من الاعتكاف داخل ذاته لأحلام اليقظة أحياناً والآلام النفسية-انفعالية أو مفتعلة- أحياناً أخرى، وقلما تجاوزت نجواه هذا الإطار إلا في القليل من إنتاجه الشعري".(شعراء نجد المعاصرون، عبد الله بن إدريس، 1960). أو مقولة سطحية لأحد الأكاديميين بعد عقدين مما كتبه ابن إدريس، وهو يكرره بطريقة أخرى، فقال: "شاعر شهير يتعلق ببلاده ويرمز إلى ذكرياته فيها في معظم شعره، ويستلهم التاريخ أحياناً بمناجاة المواقع الجغرافية، ويحلم في رومانسية يصب في جوها بوح نفسه ودوب عواطفه، ولكن في محافظة تامة على قوالب الشعر ونظامه المتوارث، مع محاولات حذرة في التجديد في هذا الإطار. ومحمد الفهد العيسى يكاد لا يتحدث في شعره كله إلا عن تجاربه الذاتية، وهمو نفسه في غلالة من الأسى والحزن".(الموجز في تاريخ الأدب العربي السعودي، عمر الطيب الساسي، 1986). فلنا أن نفصل تلك الأسباب، فحين نقول "استقلاله الشعري عن البناء على التجارب العربية" أي أنه تخطى الورطة التي جعلت من الشعر السعودي "الأدب الصدى" حين نرى غرق محمد حسن عواد في تقليد عباس العقاد في نقوداته وعنفه، وفي شعره النثري غرقه في تقليد أمين الريحاني، وسنجد أن التركة الرومانسية سواء المصرية تترك أثرها على شعر حسن القرشي أو المهجرية على طاهر زمخشري ومطلق الذيابي أو اللبنانية على عبدالله الفيصل. وأما مقولة "استمرار تطور شعره تصاعدياً بلا أدلجة الشعر ولا اعتباره نزوة مراهقة" أي أنه لم يقع رهينة اتجاه شعري قضى عليه إما بنهاية موضته الشعرية مثل محمد السليمان الشبل وعبدالله بن إدريس وسواهما، ولم يكن أسير إيديولوجيا ارتهن بها وانتهى معها مثل عبدالرحمن المنصور وسعد البواردي. وهو ما يجعله في عداد التجارب الجادة التي قضت عليها ظروف خارج عن إرادة أصحابها مثل محمد العامر الرميح وحمد الحجي وناصر بوحيمد الصامت حتى الآن. وأما مقولة "ابتعاده عن فخ الترويج الإعلامي والصراخ الأكاديمي"، فلا أظن العيسى انشغل بقضية الريادة والأسبقية ولم ينازع أحداً عليها ولم يوكل أكاديمياً ليمنحه "صكوك الريادة" مثلما حدث مع شعراء ذوي مواهب قضي عليها نتيجة الهوس الإعلامي والزوبعة الأكاديمية مثل محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وخديجة العمر وغجرية الريف (هيا العريني). وأما مقولة "النجاح المهني ناتج عن جدية وحافز انعكس على مستواه الشعري ومداه" فهي راجعة إلى أنه رغم مواجهته لهجوم عنيف حيال أعماله الشعرية عام 1962 ولم يكن وحده واجه غازي القصيبي ذلك أيضاً إلا أنهما استطاعا عبر التصاعد المهني وحماية الموهبة الشعرية لمنحها فرصة التنامي والإنتاج لم تقف عند وهم شهرة مفاجئة ولا رغبة في الحريق الإعلامي. هذا الشاعر الذي تخطى لعنة القرن العشرين، فلم يصرعه انتحار منير رمزي، ولا انهيار مثل خليل حاوي، ولا أزمة صلاح عبدالصبور ولا جنون نجيب سرور، كان كماناً لم يفقد نسبه بالربابة ولم تصدأ أوتاره فقد غنى كثيراً وطويلاً على كمان كالشهاب ينزلق القوس على أوتاره وينقفها في صحراء موجعة: "وحولي بقايا كمان حطام عليه كتبت سطوراً بدم سترقى على الدهر حتى تكون دليلاً لرمسي بين الأكم" نعم. تحطم هذا الكمان وخرج منه وبقي وتراً لم تمزقه المسافات والأزمنة".
مشاركة :