صلاة بدون وضوء

  • 6/2/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أوقف السائق محمد السيارة أمام منزل بُني من الإسمنت فوق تلة، كان الطقس بارداً ينذر بأن السماء ستستقبلنا بمطر، التفت محمد إليّ؛ حيث كنت أجلس في الخلف رفقة زميلي المصور القادم من مصر، وقال لي: "نحن في تونفيت.. وسنتناول الكسكس عند أصهاري". كان محمد ينحدر من ورزازات، وأخته تزوجت من أحد أبناء الأطلس المتوسط واستقرت رفقة عائلته في تونفيت، وكانت أول مرة أسمع باسم كهذا. قضينا أياماً جائلين في قرى الأطلس الصغير والكبير، نطرق أبواب سكان الدواوير، يستقبلوننا بترحاب كبير، ولا يمانعون بأن نلتقط لهم صوراً فوتوغرافية نوثق فيها حياتهم في الجبال. حل يوم الجمعة، وأردت لزميلي المصري أن يعيش يوم المسلمين بطعم مغربي، اقترح محمد ونحن في ميدلت أن نعرج على منزل أخته بتونفيت لنقضي هناك يوم المغاربة المقدس. كان زميلي المصري يصيخ السمع، وأنا أشرح له أن المغاربة في هذا اليوم يحرصون على أن يملأوا بطونهم بطعام الكسكس بعد أن ملأوا قلوبهم بالصلاة. طرق محمد باب المنزل الإسمنتي، أطلت منه فتاة سمراء، تقاطيع وجهها تشبه ملامح وجه محمد، كانت أخته ترحب بنا، وخرج خلفها زوجها، ووالده، ووالدته، وعدد من الأطفال الصغار. كانت التحية بالإشارة، فالعائلة لم تكن تعرف كلمة بالدارجة، وانتهت كل قدراتي على الترجمة للعربية، ولهجات المشرق، والفرنسية، والإنكليزية، وتولى محمد إيصال ما نريد قوله لأهله بلغة أهله التي لا أعرف عنها أنا ابنة نفس البلد شيئاً. وضع زميلي المصري كأس الشاي على الطاولة بعد أن أطرى على طعمه كثيراً، ابتسم له محمد، ثم قال: "هل تريد أن نذهب للصلاة؟"، رحب زميلي، ثم قال محمد وكأنه يريد أن يوضح مقصده أكثر: "أنا أعني إن كنت تريد أن تصور الناس وهم يصلون، لا أقصد أن تذهب للصلاة، فذاك شأنك وخالقك". ابتسم زميلي، وفي ابتسامته قرأت انبساط سريرته وهو يتحرر من إجبارية الصلاة التي فرضت عليه من أهله مطولاً قبل أن ينقلب عليها وعليهم. في الطريق إلى مسجد القرية، ألمح رجالاً ونساء ذاهبين في أجمل لباس إلى المسجد، لم يبدُ المشهد غريباً عليّ فما أعيشه اليوم في تونفيت هو نفسه ما أعيشه في مدينة كالرباط. نترجل من السيارة، ثم نتوجه إلى المسجد، وأشرح لزميلي ما يحدث، وهو يلتقط الصور بعينيه قبل عين المصورة، لم أنتبه إلى أنني توقفت أمام باب مسجد الرجال، فواصلت حديثي إلى زميلي؛ ليأتي شيخ من القرية ويخبرني بالأمازيغية بأن مسجد النساء من الجهة المجاورة، لم ينتظر حتى استوعب ما يقوله، أو ما يشرحه لي محمد، أحضر لي فتيات صغيرات، وأمرهن أن يوصلنني إلى حيث مسجد النساء. كانت الصغيرات يلتحفن "إزاراً"، ومنهن من ترتدي جلباباً، يتحدثن إليَّ بالأمازيغية وأجيبهن بابتسامة. من لباسي (معطف وسروال جينز) عرفن أنني "غريبة" عن المكان، صعدن درجاً إسمنتياً، وأنا أتبعهن بهدوء، إلى حيث الطابق الأول، وكان الطابق الوحيد، نساء يجلسن فوق حصير يقرأن القرآن. وضعت على رأسي وشاحي الذي اعتدت أن أحمله معي تحسباً لمواقف كهذه، وجلست أحاول تفادي نظرات المصليات، ربتت امرأة جلست بجوارها على كتفي، التفت ووجدتها عجوزاً. ذكرني الوشم على ذقني بجدتي، كانت ملامحها ودودة، قالت لي بدارجة متلعثمة ما فهمته أنه عليّ أداء صلاة "تحية المسجد"، شكرتها وأنا في نفسي أقول: "راني ما موضياش الحاجة"، لم أجد حلاً من التملص من إلحاح المرأة عليَّ أن أؤدي الصلاة، ولم أجد كيف أشرح لها أني في مهمة عمل، وأني دخلت المسجد مجبرة، وشعرت أن الله سيكون أكثر تفهماً للورطة التي وضعت فيها، فقمت أؤدي الصلاة وأنا في خاطري أقول: "ربي أنت تعلم أني دخلت إلى المسجد مجبرة، وأني لم أجد ماء أتوضأ به، وأني تيممت خلسة من نظرات نسوة المسجد، وأني لمست إسمنت المسجد ومررته على أطرافي تيمماً، فاعذرني". كدت أشعر أنها أغرب صلاة أقوم بها، لكني ذكرت نفسي أن الصلاة ما هي إلا وصل بيني وبين خالقي، وأن الإنسان أوغل في تحديدها حتى أصبحت صلاة لإرضاء البشر لا لإرضائه هو، فأديت تحية المسجد، وأنا مرتاحة البال، وعدت إلى مكاني، لكن المرأة لم تتركني، طلبت منّي أن أجلس بجوارها مرة أخرى، سمعت صوتاً من ينبعث من مكبر الصوت، كان الخطيب يبدأ في إلقاء خطبته. بدا صوت الخطيب جميلاً وهو يتحدث بلغة عربية فصيحة، قائلاً: إن خطبة اليوم ستكون حول "أفضل الناس"، الذي وصفه سيدنا محمد بـ"مخموم القلب صدوق اللسان"؛ ثم بدأ يشرح معنى عبارة "مخموم القلب". الخطيب ألقى الحديث النبوي وأسبابه باللغة العربية الفصحى، ثم انتقل يشرح مضامينه بالدارجة، بدأت أتمعن فيما يقوله بعدما بدأ يتحدث لغة أخرى، فابتسمت كثيراً، حتى إن عينيّ اغرورقتا بالدموع، بعدما أيقنت أن خطيب الجمعة كان يلقي الخطبة بالأمازيغية. لا أدري لمَ تأثرت كثيراً، ربما لأنني عشت حدثاً تاريخياً في حياتي، وأنا أسمع لأول مرة خطبة بالأمازيغية، بعد أن سمعتها سابقاً في بلدان غربية بالإنكليزية والفرنسية، وربما لأني شعرت بالفخر ببلدي الذي يستوعب كل هذا التنوع الثقافي، وبأهله الذين يتعايشون مع هذا التنوع، وربما أيضاً؛ لأنني شعرت بأن دستور المغرب يتم تنزيله في أرقى الأشكال، بعيداً عن مزايدات السياسيين. لم تتوقف مفاجآت خطيب الجمعة؛ إذ سمعته يقول، شارحاً معنى الحديث، متحدثاً إلى المسلم والمسلمة، بأن سيدنا محمد يقصد بكلامه عن أفضل الناس من يتحلى بـ"الرجولة"؛ ليردف قائلاً: "إن سيدنا محمد لا يقصد بصفة الرجولة الرجل فقط، بل المرأة أيضاً، فالذكر يولد ذكراً، والأنثى تولد أنثى، لكن التحلي بالمروءة والأخلاق الحسنة والشهامة هو ما يجعل من الذكر والأنثى رجالاً يفخر بهم سيدنا محمد". وحين سمعت قول الخطيب هذا، شعرت بأن الضحكة ستنطلق منّي عالياً.. كنت أريد أن أضحك من أتباع الغرب، الذين يقولون إن الدفاع عن المرأة لا يأتي إلا من الدول الغربية، كما كنت أريد أن أضحك من السياسيين الذين يتحدثون عن المناصفة، ومن تخلفهم في "مغرب المدينة" بالمقارنة مع خطيب هذا الدوار الأمازيغي الفقير، الذي تحدث عن أن المسلم والمسلمة متساويان عند الله. الخطيب تحدث بأجمل تعبير عن المساواة بين الرجل والمرأة في "جهاد النفس"، وعن أن التنافس ينبغي أن يكون في التحلي بالأخلاق الحسنة، أو ما وصفه هو مراراً بـ"الرجولة"، وحين انتهى من خطبته دعا للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، بأن يكونوا خير الخلق من أجل عالم سليم ومسالم. أمّنت على دعاء الخطيب، وأنا أفكر في أولئك الذين يدّعون أنهم حراس الإسلام، وهم يخطبون من منابرهم داعين على كل من لا يشبههم بـ"الفناء"، واصفين إياهم بـ"الكفرة والقردة والخنازير"، بعد أن يخطبوا في المصلين عن عذاب القبر، ودار الكفار، وقطع الرؤوس، وضرب الرقاب. انتهى الخطيب ودعا إلى الصلاة، فقمت مع القائمات، وعادت المرأة العجوز إلى جواري من جديد وكأنها والدتي تصر على أن تشملني برعايتها، جرتني إلى جوارها، وأمرت المصليات أن يفسحن لي مكاناً، وحين انتهينا من الصلاة، التفتت إلّ وتمتمت دعوات نصفها بالدارجة ونصفها بالأمازيغية، فقبّلت رأسها، وغادرت ذاك المسجد الصغير المليء بالإيمان وبالحب، فكانت أجمل صلاة جمعة أؤديها، وإن كان الوضوء فيها بلمسات إسمنت لا قطرات ماء فيها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :