النسخة: الورقية - دولي بدل ان يرد على التساؤلات المفتوحة حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهده، بدا خطاب الرئيس اوباما في أكاديمية «وست بوينت» العسكرية وما تمثله رمزياً، على مقدار عالٍ من التبريرية والشعور بالرضا، وهذا على رغم محاولة الإدارة الترويج قبل إلقائه بأنه سيكون خطاباً مفصلياً يتضمّن إعادة تعريف أهداف السياسة الخارجية وإطلاق مواقف «جديدة» من القضية السورية. والحال أن الخطاب تضمن تبنياً لمفهومين ليسا جديدين في سياسته: الأول، أن ليس «لكل مشكلة حل عسكري» مستشهداً لتأكيد ذلك بقول الجنرال الرئيس ايزنهاور بأن الحرب هي «الجنون الاكثر مأسوية والاكثر غباء في الطبيعة الانسانية» وبأن «بعض أخطائنا الأكثر كلفة منذ الحرب العالمية الثانية ليست ناتجة من امتناعنا، بل من إرادتنا المشاركة في مغامرات عسكرية من دون التفكير بنتائجها». الثاني، أن الولايات المتحدة «لم تكن نسبياً أقوى مما هي عليه الآن»، وأن «مَن يعتبرون أن قوتها تتراجع يزيّفون التاريخ»، وأنها بهذه الصفة عليها «ان تقود الساحة الدولية، وإذا لم تفعل ذلك فلا احد سيفعله». «التجديد» الوحيد الذي قدَّمه الرئيس أوباما جاء في مجال التحديد بالنفي لمحتوى العلاقة بروسيا البوتينية وتأكيده أن أحداث أوكرانيا ليست «حرباً باردة»، لكنه في المقابل تجنّب الإشارة إلى دلالات السياسة البوتينية في الملفيْن السوري والأوكراني بحيث بدا قوله «تمكّنا من عزل روسيا فوراً» وتجاهله أحداث شرق اوكرانيا كتبريرٍ ضمني لموقفه الموصوف بالضعف من خبراء وساسة اميركيين وأجانب، وكشرعنة لتقديره بأنه ما زال هناك «نظام دولي» فاعل. وهو ما أكده مستشاره بن رودس قبل يومين من الخطاب وتمهيداً له بأن قيادة الولايات المتحدة للعالم «يجب أن تكون في خدمة النظام الدولي»، على رغم أن الأخير موضع نزاع على توصيفه ومحتواه وأطرافه. فهل هو نظام القطبية الأحادية الذي يمكن أن يوحي به تأكيد الخطاب بأن «لا غنى عن الولايات المتحدة على رأس القيادة الدولية، والسؤال ليس إذا كانت ستقود بل كيف ستفعل ذلك»، وأن الولايات المتحدة ستتابع استخدام القوة العسكرية بشكل أحادي «عندما تستدعي ذلك مصالحنا الجوهرية، ولدى تعرّض شعبنا لتهديد، وعندما يصبح رزقنا في خطر أو حين يتعرّض أمن حلفائنا لخطر». أو نظام القطبية الثنائية مع روسيا كما في عهد الحرب الباردة التي «لم تعُد»؟ او التعددية القطبية التي تضم دول البريكس وربما ايران أيضاً؟ ومثلما انه لا يُحدِّد صفة هذا النظام، فهو لا يحدد طبيعة قواه، وهل إن بعضها صالحٌ فعلاً بشروط وجودها وأساليب عملها لإقامة «نظام» ما، كالقوة التعطيلية الروسية مثلاً أو النظامين الصيني والإيراني؟ وما سيكونه «النظام» في هذه الحالة؟ الإشكال الآخر أن الخطاب أضاف قرينة جديدة على عودة مواربة ومتدرجة إلى مصطلح «الحرب على الإرهاب» الذي كان أعلن شطبه قبل اربعة أعوام، حتى لو تضمنَّت العودة المذكورة تقليصاً لأدوات ممارسته وتخفيضاً لمحتواه الأيديولوجي البوشي. وإلا فما معنى قوله إن «الإرهاب هو التهديد الأبرز للولايات المتحدة في المستقبل القريب» وإن واقع تحوُّله من مركزية تنظيم «القاعدة» إلى فصائل تابعة له يوجب فقط «على الردّ الأميركي أن يتغيّر أيضاً». وضمن هذا السياق أتت دعوته للشراكة مع دول تبحث تنظيمات إرهابية عن موطئ قدم فيها وتأسيس صندوق شراكة مقداره 5 بلايين دولار لـ «مكافحة الإرهاب» في أفغانستان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والحال أن «التغيير» الذي أعلنه الخطاب والمعلومات المسرَّبة قبله وبعده في القضية السورية بدا محصوراً بخطة متدرجة لتدريب «قوى المعارضة المعتدلة» وتزويدها بأسلحة نوعية مع شروط ضبطٍ وإشرافٍ صارمة. وإذا كان ذلك غير سيئ بذاته، إلا أنه يستدعي ملاحظات عدة: - إنه يأتي بعد ثلاث سنوات قاسية اقتصر خلالها دعم واشنطن على تقديم «المساعدات غير الفتَّاكة» والامتناع الطوعي عن استخدام وسائل الضغط التي يفهمها النظام وحلفاؤه كما أثبتت تجربة الكيماوي. - إنه يُقدَّم كبديلٍ لإرسال قوات عسكرية ولأي تحرك خارج مجلس الأمن لتأمين منطقة حظر جوي أو سواها من تدابير حماية المدنيين والمناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام. - إنه أتى منعاً لـ «تصدير الأزمة إلى بلدان الجوار». - إنه مشروطٌ بالتكامل مع الحرب على إرهاب «القاعدة» وفصائلها، على رغم إقرار أوباما بأن الشعب السوري يناضل «ضد ديكتاتور يقصف شعبه ويجوّعه»، وبأن فشل أميركا «في التحرّك لمواجهة الوحشية في سورية أو التحريض الروسي في أوكرانيا لا ينتهك فقط ضميرنا، بل يجرّ إلى تصعيد أكبر مستقبلاً»... وعلى رغم أن الادارة الاوبامية مسؤولة جزئياً على الأقل عبر سلبيتها وصمتها عن التدخلين الروسي والإيراني وعن مسالك بعض حلفائها الإقليميين، في انتشار نفوذ المجموعات الجهادية المتطرفة. لا تعني هذه الملاحظات انه لم يكن على الثورة السورية التصدي السياسي والعملي للمجموعات المتطرفة التي همّشت الجيش الحر وأفسدت صورتها وأساءت إلى علاقتها بحواضنها الشعبية، وأن هيئاتها القيادية مسؤولة نسبياً لأنه كان ممكناً لها التنبه للأمر في وقتٍ أبكر، ولكنها تعني ان الأفق السياسي لما يمكن ان تريده إدارة أوباما للثورة السورية وتشرطها به لن يكون بالضرورة التغيير الجذري للنظام الأسدي بل إسقاط رؤوسه وتهجينه بشكليات ديموقراطية في تسوية «توافقية» تضمن نجاح مواجهة «التطرف» والاندراج في نظامٍ إقليمي يُعاد تأسيسه بشروطٍ وبقوى مختلفة. وهذه الأخيرة قد يسفر عنها التفاوض الأميركي- الإيراني الذي يعطيه أوباما أولوية إقليمية واضحة. اذا كانت الأوصاف التي أسبغها اوباما على القوة الأميركية صحيحة، وهي كذلك على الأرجح، فإن استخدامها للتشديد على صحة مواقفه في الملفين السوري والاوكراني بوجه الانتقادات الموجهة اليه في اميركا نفسها، يبدو غير منطقي ولا يتعدى حدود التمديد لمراوحة واشنطن الغالبة بين تطرفين: الانعزالية والتدخلية الجامحة، بما لذلك من دلالات على اختلال في آليات تشكل القرار السياسي الأميركي وليس في «النظام» الدولي وحسب. * كاتب لبناني
مشاركة :