الأمومة والأبوّة في عصر الحداثة

  • 6/4/2014
  • 00:00
  • 26
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي القرابة العائلية النواتية والقائمة على الأبوة والأمومة، وعلى تبوؤ الولد مكانة ليست بعدها مكانة، لا تعود إلى أكثر من 70 سنة. وهي شهدت في الجيلين الأخيرين تغيراً عميقاً. فالأولاد كانوا، في المرحلة الأولى من هذا الطور، يداً عاملة في المزرعة أو في المحترف قبل أن يخصوا برعاية وانتباه شديدين. «كان أولادنا يعملون في خدمتنا وإذا بهم يصبحون رؤساء أهلهم»، تكتب جينيفير سينيور في كتابها الآسر «سعادة غامرة لكنها خالية من السرور: مفارقة الأهل الحداثيين» (دار إيكو، 2014). وتتناول صحافية «نيويورك ماغازين» فيه معنى حال الأهل ودلالة هذه الحال. وكتاب سينيور يقوم على مجموعة حوارات ومقابلات مع أسر أميركية متوسطة أو عادية، في منزلة بين التفاهة وبين الاستثناء. والمحاورات تلتقط أو تثبت لحظات في حياة هذه الأسر، وليست عملاً توثيقياً طويلاً. وشأن الصور الفوتوغرافية الجيدة، فهي مرآة قوية الدلالة، وتعرب عما تتناوله فوق ما يظن القارئ للوهلة الأولى، وتدعو إلى تعميمات حذرة. والمصدر الآخر الذي ينهل منه عمل الصحافية هو ثبت مراجع بالغ الاتساع يأخذ بطرف من الفلسفة وعلم النفس ومن العلوم الاجتماعية. وفي موضع من كتابها شاهد من دارسة الاجتماعيات، فيفيانا إي زيليزير، تلاحظ فيه الأستاذة في برينستون أن الأطفال في أيامنا «لا قيمة اقتصادية لهم لكن قيمتهم العاطفية لا تقدر بثمن». وتخلص إلى السؤال التربوي الأساسي: هل على الأهل انتهاج طريقة ليبرالية في تربية أولادهم أم أن الطريقة المتشددة التي يسميها الصينيون «طريقة الأم النمرة» هي الأفضل؟ هل ينبغي تغليب الرباط العاطفي على قاعدة «من يحسن الحب لا يتردد في العقاب الصارم»؟ تلاحظ سينيور أن كل المناقشات التي تتناول دور الوالدين مصدرها واحد، هو تآكل دوريهما التقليديين وأفولهما. فنحن لم نعد نعرف على وجه الدقة ما معنى تنشئة الولد، ابناً أم بنتاً. كل ما نعلمه هو أن التنشئة المنشودة لا تقتصر على «تدريس الرياضيات والجغرافيا والأدب (فهذه تضطلع المدرسة بتدريسها)، ولا على الرعاية الطبية (مهمة طبيب الأولاد)، ولا على خياطة الأثواب والسراويل (مهمة الصناعة الصينية)، أو إنتاج ما يغذي أطفالنا (المزارع الصناعية تتولى الأمر وتوزع الأسواق الكبيرة السلع الموضبة)، أو تعليمهم حرفة (الكليات الجامعية والمحاضرات والفيديو على الشبكة تقوم بالمهمة خير قيام)». لذا تبدو تربية الطفل عملاً شاقاً وعاقاً، لا يجزي من يقوم به اطمئناناً ولا سكينة. ولكنها تجربة تنفخ في مَن يتولاها حماسة لا مثيل لها. وتفترض سينيور، في مستهل عملها، أن من ولدوا أولاداً هم أسعد الناس وأكثرهم شقاء، ويفوق شقاؤهم وسعادتهم نظيريهما عند من لم يلدوا أولاداً. فالأمهات والآباء يختبرون وهم يربون أولادهم، ألواناً من المشاعر والأحاسيس أغنى من تلك التي خبروها من قبل. وتتطرق الكاتبة إلى التباس المشاعر، فتلاحظ أن الوالدين في معظم الأوقات يقفان على شفير هاوية، بالغاً ما بلغ حبهما لأولادهما. والكتاب مليء بعبارات وأفكار تنبئ بحكمة الكاتبة ونضوجها واستقامتها القوية. فهي تكتب، على سبيل المثل: «من قضى معظم حياته الراشدة في معية ناس راشدين مثله، عليه أن يبذل جهداً أكبر ليتكيف مع ناس يحسون فوق ما يفكرون»، هم أولاده. والأولاد يتصدرون كل ما عداهم من الأمور والمشاغل التي تملأ حياة والديهم. فالواحد (أو الواحدة) لا يستوي أباً جيداً (أو أماً) إلا إذا وسعه أن يحضن أولاده ويحيطهم برعايته، وأن يخلي بينهم وبين مباشرة حياتهم وتجاربهم، معاً. إحدى النساء اللواتي حاورتهن جينيفير سينيور تميز حال أمها («سيدة بيت») من حالها هي («أم في البيت»، أي لا تعمل من أجل الانصراف إلى تربية الأولاد). وفرق التسمية قرينة على توقعات اجتماعية جديدة. فالحاجات التي كان على النساء تلبيتها ويتصل معظمها بتدبير البيت أو المنزل الأسري، تتعلق اليوم بالأمومة. ونظير الأمومة ثمة طفولة. وحين يولد الأطفال يتسللون بين زوجين، ويزرعون الخلل في علاقتهما وتوازنها. فهم سبب معظم المشادات الزوجية، ويتقدمون الأسباب الأخرى مثل الملل والعمل وأهل الزوجين وعادات الزوج الآخر المزعجة وعسر التواصل واللهو والالتزام والأصدقاء المضجرين والحياة الجنسية. والنساء يشعرن بتنازع لا يطاق بين إرادتهن التفوق في عملهن وفي أمومتهن. تصرف المرأة الأميركية اليوم على العناية بأولادها نحو 4 ساعات في الأسبوع فوق ما كانت تصرفه المرأة الأميركية في 1965، وكان معظمهن لا يعملن آنذاك على خلاف حالهن اليوم. أما الوالد فيصرف على أولاده 3 أضعاف الوقت الذي كانت تقتضيه تربيتهم يومذاك. لكن الرجل أكثر رفقاً بنفسه من زوجته، ولا يمضه بعده من البيت، على عكس مشاعر الزوجة. ويطرأ على طريقة رعاية الأولاد، لدى بلوغهم المراهقة، تغير ملحوظ. فكثر هم الأهل الذين ينخرطون في أعمال أولادهم المدرسية. وتلخص الكاتبة هذه الحال بعبارة موجزة مثل: «الوظائف المدرسية هي وجبة طعام المساء الجديدة». ويتبوأ هذا الوقت مكانة خاصة، ويتوسل به الأهل للتعبير الحار عن مشاعرهم الأسرية. والمراهقة اختبار عسير لهم، فعلاقتهم بأولادهم خلالها تتغير، وعلاقتهم بأنفسهم كذلك. وعندما تستقل ذرية المرء (والمرأة) بنفسها، ينهار جزء راجح من مسوغات الحياة وعللها. وهذا ليس يسيراً على التحمل. وقد تدعو هذه الخسارة الأهل إلى الانطواء على حياتهم الخاصة أو الداخلية، وإجراء كشف حساب أليم في معظم الأحيان. وترى سينيور أن المراهقين يتمتعون بطاقة على العيش غنية بالإمكانات والاحتمالات، ومستقبلهم مشرَّع على أفق عريض، فمجرد حضورهم في البيت يحمل الأهل على الحلم بالماضي والتساؤل عمَّ كان ليحصل لو أن الأمور جرت على هذا النحو أو ذاك. وما قد يؤخذ على هذا الكتاب الممتاز إن كان ثمة مأخذ عليه، هو نبرته المفرطة في المسرح في بعض الأحيان، وإيقاعه السريع. ويخلّف الأمران انطباعاً بأن بين يدي القارئ سلسلة مقالات صحافية جيدة الحبكة وليس كتاباً. فكأن الفصل من الفصول قام بحاله ومستقل بها، ولا حاجة إلى غيره، وبعض الفصول يحتاج إلى توسيع وتفصيل. والتناول السريع والمرح يبدو ناشزاً حين يقارن بالمسائل الجدية التي يعالجها أو يتطرق إليها، لكن مادة الموضوع الغنية تقوّض السرعة. إن تربية طفل عصري مدلل أمر يغلب أن يكون شاقاً وعسيراً. والأبوة أو الأمومة لا تقتصر على ما يفعله الأب أو تفعله الأم بل تتخطى الفعل إلى هوية الاثنين وكينونتهما. وملاحظات الكاتبة تتعلق بالوجه الوجودي والمعقد الذي لا يفارق حال الأبوة وحال الأمومة:» الشعور بالأبوة والأمومة، والاضطلاع بأعباء التربية اليومية، المرهقة غالباً، أمران مختلفان، وليس في متناول العلوم الاجتماعية الإحاطة بحال الأبوة أو الأمومة». والحال إن جهاز هذه العلوم قاصر عن فهم طبيعة الفرح الذي يغشي والدي الابن لدى ولادته. وتتجلى في كتابة جينيفير سينيور حساسية الروائية وهي تتصدى لوصف الانتشاء الذي يستخف بالوالدين. ولا تنفك تنبه إلى أن الانتشاء ليس شعوراً يضاف من الخارج إلى الأعباء التي تثقل كاهل الأهل، بل هو ينجم عن هذه الأعباء الثقيلة. وهي تسأل: «انتهى مجتمعنا إلى تعريف الحرية بالتخفف من كل إلزام. ولكن ما معنى هذه الحرية إذا افتقرنا إلى ما يدعونا إلى التضحية بها في سبيله؟». وتميز سينيور، على خطى دانييل كانمان، «أنا التجربة»، أي أنا الحاضر، من «أنا التذكـــر»، أو الذات التي تستعيد الحياة في رواية: «تقول أنا التجربة للباحثين إننا نفضل غســـل الصحون، أو القيلولة أو قضاء الوقت في شراء الحاجيات، أو كتابة أجوبة الرسائل الإلكترونية، على قضائه في الاعتناء بأولادنا (...) أما أنا التذكر فتقول إن لا شيء أو أحد يجلب لنا الفرح الذي تجلبه ذريتنا. وهذا الفرح ليس بالضرورة السعادة التي نحســها يوماً بعد يوم، بل هو السعادة التي نستحضرها ونتذكرها وتسري في رواية حياتـــنا». وتتكلم سينيور على الاعتداد بالأولاد، والمباهاة بهم وبما قد يحرزونه من نجاح، أو بمجرد تفتح إنسانيتهم:» ربما يعقد الأولاد حيواتنا، لكنهم يجعلونها بسيطة، من جهة أخرى. فحاجاتهم وتبعيتهم لنا، تبلغ من الإلحاح مبلغاً يلزمنا بهم إلزاماً أخلاقياً لا فكاك منه. ونحن أسرى كائنات تحتاج إلينا، واعتناؤنا بهم (الأطفال) يقودنا إلى محبتهم، والسرور بأبوتهم أو أمومتهم، والفرح الغامر وغير المشروط بهم». وقادني كتاب «سعادة غامرة ولكن خالية من السرور» إلى التفكير في أبوتي لأولادي، إذ يدهشني ضجري في صحبتهم. فما هو عدد المرات التي ينبغي أن أعيد فيها قراءة «انجيلينا باليرينا» أو مشاهدة «بوب الشاطر»؟ ثم أدرك، في أحيان أخرى، أن مشاطرتنا أوقاتاً حميمة هي ما يعطي الحياة معنى. ولا أفهم كيف قد يحرف إرسالي بريداً إلكترونياً اهتمامي بأولادي لحظة واحدة. فأنا لن أفجع بخسارتي بريدي كله، لكن خسارة ولد فاجعة لا شفاء منها. ولا يحول هذا دون شعوري أحياناً بوطأة صحبتهم. وهذه المفارقة لا تنطوي على تناقض، كما تبرهن سينيور، فاحتمالنا أولادنا هو ركن حبنا لهم.        * كاتب، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 31/1ww/2014، إعداد منال نحاس

مشاركة :