ما الذي يمنح بعض الشعوب أو القوميات المناعة ضد الاندثار والتلاشي؟ ما الترياق الذي يحمي بعض الجماعات العرقية (دون البقية) من الخضوع للصيرورة الزمنية المتبدلة المتغيرة البائدة المبيدة؟ عبر التاريخ كان هناك نزال لم يتوقف بين الانسان وبين قوانين الفناء والموت، وعبر هذه المعركة القديمة الطويلة خلقت الجماعات مخابئء ودروعا تلوذ بها عن عواصف الفناء وتمنحها غطاء واقيا من أسيد الزمن. بعض الشعوب استجارت بالجغرافيا كالصين التي لاذت بسورها العظيم الذي يحجبها عن شرور العالم ويحجب العالم عن شرورها، حتى جيوش الأرض كانت تهاب الاقتراب منها فقد قال نابليون يوما (دع المارد الأصفر في غفوته). الجغرافيا ايضا حمت الجزر الإنجليزية المبحرة وسط عتمة الأطلسي بين المطر والضباب، ورغم أن الإنجليز يتشاركون مع أوروبا العرق الأنجلو ساكسوني، إلا أنهم يصرون على الهوية المستقلة، لغة وأسلوبا وثقافة وكنيسة انجيلكانية ولتأكيد هذه الاستقلالية (لم ينضموا إلى الاتحاد الأوروبي) وبقيت تلك الجزر تحمي القومية الإنجليية من التلاشي وسط الخضم الأوروبي الكبير. وما بين عرب بائدة وعرب عاربة هاجرت قبائل وبقيت أخرى وتفتتت وتلاشت الثالثة، وتعاصرت كل من قبيلتي قريش، وقبيلة حنيفة، وكانت قبيلة حنيفة عظيمة قطنت وسط الجزيرة بلاد خير، ذات زرْع وماشية، بقرى عامرة، وعيون جارية، ونعم سارحة، حتى إنها كانت تمد الحجاز وقريش بالزاد والميرة فلما أسلم ملكها ثمامة الحنفي، حجب عن قريش (الميرة)، ولم يردها إلا بعد أن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بردها كما ورد في سيرة ابن هشام، ورغم عظم قبيلة حنيفة وسطوتها فإنها بادت وبقيت قريش كونها خُصت بالرسالة المحمدية تقيها الفناء. الأتراك من الأثنيات العرقية التي شاركت في المشهد السلامي بكثافة، لكن الأمر الذي كان يحميهم من التلاشي والاندغام في العرب.. هو ساحة المعركة، فهم قواد جيوش ذوو شدة وبأس في المعارك ابتداء من جيش المعتصم وأحمد بن طولون، مرورا بالدولة العثمانية، وصولا إلى القائد العسكري أتاتورك، عندما تهاوت الخلافة العثمانية، وكادت الدول العظمى أن تتقاسم تركيا، لاذ الأتراك بساحة معركة (قاليبولي) التي انتصر بها أتاتورك، ونجا بهويتهم التركية واستغرقتهم عملية التتريك منذ ذلك الوقت حتى إنه يقال بأنهم ترجموا الأذان إلى التركية. اليهود بعد غزوة نبوخذ نصر البابلي لفلسطين، وأخذهم أسرى وسبايا إلى العراق، اختبأوا داخل النص وتعاليم كتابهم المقدس التلمود، وظلوا تلك القبيلة الهائمة على وجهها عبر التاريخ كلما حدقت بها الخطوب اختبأت داخل النص وتعاليمه وعلى هامش هذه الشعوب والقوميات التي قاومت الفناء، كان هناك الاف من الشعوب التي سادت ثم بادت وبقيت أثرا بعد عين، مثل شعوب الأنكا، والهنود الحمر، والبورتغيز في أستراليا، وسواها كثير الذين لم يستطيعوا أن يكونوا رداء يقيهم شر عوادي الدهر وأسباب الفناء. واليوم ونحن شعوب تعتمد على الآخر في كل أمرها من الإبرة حتى جهاز الحاسب.. أين سنختبئ عن طوفان العالمية والكوزموبوليتان؟ بالتأكيد الحل لن يكون عبر العدوانية وإشهار سيوفنا ضد العالم ولن يكون عبر الفرار والتقهقر إلى الخلف، بل حتما الانفراجة ستكون عبر الإقدام والمشاركة وإحداث فرق والتفوق الحضاري.. الفاعلية والانتاجية والمشاركة الحضارية في المسيرة العالمية هي قارب النجاة الوحيد.
مشاركة :