فىأكدنا أهميةَ وضرورة تقديم الإسلام وأحكامه في عصرنا تقديماً فلسفياً مقاصدياً، يبرز الحكمةَ والقصدَ من تلك التشريعات، وقد نتج عن غياب هذه الحكمة عدم وجود أثر العبادة في واقع المسلمين، كما وصف ذلك الدكتور مراد هوفمان، السفير والمفكر الألماني بقوله: إن صوم رمضان أصبح يمارس في أقسام من عالم المسلمين على نحو يجرده من مغزاه الديني، ويجعله جزءاً متحرراً من المدنية، وهذا يفسر أيضاً السلوك الغريب من جانب بعض المسلمين؛ إذ يمتنعون عن تناول الخمور في رمضان، باعتباره شهر إسلام، مقابل أحد عشر شهراً للراحة من الإسلام. ومن حِكم ومقاصد الصيام ما يلي:أولاً: المقصد الإنسانييجوع الصائم لبعض الأوقات؛ ليشعر بمَن يجوع كل الأوقات، وإذا كان الصائم يعاني ويجاهد نهاراً بترك الأكل والشرب، فإنه ساعة الإفطار يجد صنوف الطعام والحلوى والمشروبات، لكن غيره من الفقراء والمعوزين لا يجدون طعاماً، إن في نهاية اليوم أو في اليوم التالي، فعندما يجوع الصائم يتذكر غيره من الجائعين فيسعى للتخفيف عنهم ومساعدتهم وإطعامهم؛ لأن المسلم لا يحيا لنفسه فقط. وهذا المعنى أطلق عليه الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله "الاشتراكية الإنسانية الأخلاقية"، فمشاركة الآخرين الهموم والعمل على التخفيف عنهم، وغرس قيمة ومعنى المساواة قائم في كل العبادات، ففي الصلاة "اشتراكية" الرؤوس لا يعلو رأس كبير على رأس مغمور، وفى الصوم "اشتراكية" البطون، لا يمتاز فيها بطن على بطن، وفى الزكاة "اشتراكية" في الأموال لا تمتلئ في جيب وتفقر منها في جيب، وفي الحج "اشتراكية" في الأجساد لا يتميز جسد عن جسد بلباس ولا غطاء. لكن ممارسات المسلمين اليوم في شهر رمضان لا تعكس وقوفهم على هذا المعنى؛ فقد أصبح شهر رمضان أكثر الشهور التي ينفق فيها على الطعام والشراب، وقد صارت بطون الصائمين تتألم من كثرة الطعام بعد الإفطار، أكثر من تألمها من الجوع بالصيام!! وهو ما لاحظه الدكتور مراد هوفمان حين قال: (يرتفع كثيراً استهلاك الأغذية في رمضان بدلاً من أن ينخفض، أما ما ينخفض بالتأكيد فهو إنتاجية العمل، ويؤثر رمضان على الإنتاج القومي في هذه البلدان كما لو كان مدة إجازة ثانية). لقد أدرك نائب في البرلمان الكندي هو مارك هولاند هذا المعنى من الصيام بعد أن صام مع المسلمين لعامين متتاليين وهو غير مسلم، وهو صائم أيضاً هذا العام، وقد عرض تجربته أمام البرلمان الكندي قائلاً: أخوض تجربة الصيام لأمرين اثنين: الأول: هو الشعور بمعاناة الجوعى، والثاني توفير مال الوجبات التي لا آكلها أثناء الصيام والتبرع بها لإحدى المؤسسات الخيرية، التي تعنى بالجوعى والمحتاجين في كندا والعالم. وأضاف أن المحتاجين كُثر في عالمنا اليوم، وهم ليسوا بحاجة للطعام ليوم واحد بل دوماً. إن العالم يموت به يومياً 21 ألف شخص جوعاً (بحسب تقرير منظمة الأغذية العالمية "فاو")، وليس فقط خلال شهر رمضان، وهناك الملايين الذين يعانون التخمة والحيرة في الاختيار بين ألوان وأنواع الأطعمة خاصة في شهر رمضان! إن إنسانية الإسلام ظاهرة واضحة في تشريعاته وأحكامه، بل إن القرآن الكريم كتاب إنساني، لكن المسلمين اليوم لم ينجحوا في تجسيد هذه القيمة، والإسلام في إنسانيته ورعايته للمحتاجين لا يفرِّق بين الناس على أساس الدين، وقد جوّز عمر بن الخطاب إعطاء غير المسلم من الزكاة المفروضة لا فرق في ذلك بين الفقير المسلم وغير المسلم، وهو ما رجحه عدد من الفقهاء المعاصرين، وهو ترجيح مقاصدي إنساني يسنده الدليل والبرهان. إن توافد آلاف اللاجئين على ألمانيا وأوروبا أظهر البعد الإنساني في الشخصية الأوروبية، بينما تأخر المسلمون نسبياً في القيام بواجبهم الإنساني، وسبقت الكنائسُ المساجد بفتح أبوابها للاجئين، ولم تقع التفرقة بين الناس على أساس الدين في الدعم والإغاثة على أساس الدين. تحدث وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله في احتفالات بلاده بذكرى تأسيس الكنيسة البروتستانتية الألمانية في ثاني أيام رمضان 28/5/2017م قائلاً: إن الدين الإسلامي يتضمن الكثير من القيم الإنسانية القوية التي يمكن للمسيحيين والملحدين في ألمانيا التعلم منها مثل إكرام الضيف، والتسامح. فهل يفعلها المسلمون في ألمانيا وأوروبا خلال شهر رمضان فيقومون بتجسيد هذه القيم الإنسانية؟ ماذا لو رفع المسلمون في ألمانيا وأوروبا شعار: (فى رمضان أشعر بالجائعين) وقاموا بجمع الأموال الفائضة من الاقتصاد النسبي في الإنفاق على الطعام خلال شهر رمضان، وإيصالها من خلال المؤسسات الخيرية للجائعين والفقراء وحفر آبار المياه لهم حول العالم، والإعلان في نهاية الشهر عن النتائج لتشجيع غيرهم؟! ويستمر هذا المشروع كل رمضان، ويصبح من تقاليد شهر رمضان المعروفة في المجتمع، تُرى كيف سينظر المجتمع إلى أثر تلك العبادة التي رأوها غير منطقية في بادئ الأمر؟ وكم عدد المتفاعلين معها من غير المسلمين؟ وكم عدد الذين سيخوضون تجربة الصيام فضولاً للشعور بالناس؟! وكيف سيرى المجتمع دور المسلمين الإيجابي الإنساني في العالم، وكيف ستقدم التجربة في الإعلام؟ إن المبالغ التي يمكن جمعها للجائعين من ملايين الصائمين ستكون هائلة، وستخرج بنفس سمحة مستظلة بروح الصيام والقيام.ثانياً: الحرية والتحرير الصيام يحرر الإنسان من شهوات نفسه ورغباتها، ويمكنه من قيادة نفسه وضبط زمامها، وسيادتها وقيادتها، فمن تحكم في نفسه وكبح جماحها بالصوم، قادر على أن يمنعها عن الشر، وأن يوجهها للخير، وتلك هي الحرية الحقة، فليست الحرية أن ينطلق الإنسان وراء شهواته وملذاته يأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، ويخالل مَن يشاء وقتما شاء، كلا فتلك عبودية ترتدي ثوب الحرية، فقد أصبح الإنسان بهذا عبداً لتلك الشهوة وهذه العادة من قهوة، أو سيجارة، أو ماركة، أو منصب، أو مال، أو كذا، أو كذا. ويرى الدكتور مصطفى السباعي أن تمام الحرية قد يكون بالمنع أحياناً، فالمريض حين يمنع من الطعام الذي يضره إنما تحد حريته في الطعام مؤقتاً؛ لتسلم له بعد ذلك حريته في تناول ما يشاء من الأغذية. ويقول الدكتور مراد هوفمان: وبالنسبة لي لعل أهم أثر جانبي لصوم رمضان أن أختبر ما إذا كنت ما أزال سيد نفسي أم أنني صرت عبداً لعادات تافهة، وما إذا كنت لا أزال قادراً على التحكم في نفسي أم لا؟ وأتمنى أن يكون فرحاً وليس غروراً ذلك الذي أشعر به بعد انتهاء آخر أيام رمضان، أي عند صلاة المغرب، من أنني استطعت بعون الله أن أصومه. لاحظت بالأمس فراغاً في صلاة المغرب على غير العادة، فقيل لي: إن الناس تتابع مباراة ريال مدريد قلت: هل حرّر الصيام حقاً هؤلاء من عاداتهم ورغباتهم، فقدموا ترفيهاً يمكن استرجاعه على عبادة وفضل إذا فات لا يعود؟! إن الصائم إذا نجح بالصيام في تحرير نفسه من أهوائها، صار قادراً على تحرير وطنه وأمته من الظلم والاستبداد وعيشها بحرية وكرامة، فهل تدرك أمتنا الصائمة هذا المعنى فتنطلق لتحرير أوطانها بأخلاق الصائمين ومسالمتهم وحكمتهم؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :