لماذا نصوم ؟ (4)

  • 6/21/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

فى مقالنا اليوم نكمل ما بدأناه في المقالات السابقة من حِكمٍ ومقاصدَ للصيام، جواباً عن السؤال: لماذا نصوم؟ خامساً: تنمية ملكة المراقبة لله عز وجل تحقيق التقوى هو المقصد المنصوص عليه في آيات الصيام، كما في قوله تعالى: (لعلكم تتقون) والتقوى هي: استشعار أن الله يراك في أي زمان، وأي مكان، على أي حال، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت.." أي: استشعر أن الله معك حيثما كنت مع الناس، أو وحدك، في حضور القانون والعقوبة، أو في غيبتهما. والعلاقة بين الصيام والتقوى، في أنه عبادة سرية عكس سائر العبادات التي الأصل فيها الإعلان والإظهار، فالسنة في الصلاة أن تؤدي جماعة في المساجد، والزكاة قال الله عز وجل فيها: (إن تُبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وقال: (فهو ينفق منه سراً وجهراً)، والحج تلبية علنية، ويسن توديع الحاج وطلب الدعاء منه، أما الصوم فربما امتنع المسلم عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن دون نية الصيام، فهو ليس بصائم وهذا معنى قول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به) وقوله: (ويدع شهوته لأجلي). فالصيام هو العبادة السرية التي تقوم بالدور الأعظم في تنمية ملكة المراقبة لله عز وجل، وقد فرَّق عدد من الفقهاء بين صيام الفريضة والنافلة إذا تعرض الصائم فيهما لسباب أو شتم، أن يقول في الفريضة جهراً: إني صائم، ويقولها في النافلة سراً، والفرق أن الناس في الفريضة صائمون فلا غرابة في الجهر والتذكير بأنه صائم، أما الإعلان عن الصيام في النافلة فخادش للسرية المطلوبة في الصيام، كون أغلب الناس غير صائم في النافلة. والتقوى هي الترجمة المعاصرة لحساسية الضمير ويقظته، الذي يردع الإنسان عن فعل القبيح والمنكر، وإن كان في مأمن من العقوبة القانونية، أو انتقاد وذم الناس، أو نزول قدره عندهم. والمسلمون اليوم أحوج أمم الأرض إلى يقظة الضمير ومراقبة الله -عز وجل- في حياتهم و أعمالهم، ولو صام المسلمون صياماً محققاً لمقاصده فتحققوا بالتقوى واستيقظت ضمائرهم، لما وجدت حاكماً يقتل شعبه، أو يدمر وطنه ليبقى حاكماً، ولما رأيت قاضياً يحكم على الناس ظلماً بالسجن أو القتل وهو يعلم براءتهم، ولما رأينا عالماً يبيع دينه بدنيا غيره، ويفتي بسفك الدماء المعصومة، ولما رأيت طبيباً يخون أمانته ويتاجر بالمرضى، وما رأيت الكثير من الصور المفزعة والمهددة لمجتمعاتنا المسلمة الصائمة، التي ما أن يأمن الناس فيها من العقوبات القانونية الدنيوية، فيعيثون في الأرض فساداً، كأن الله لا يراهم، وكأن كل نفس لن تجزى بما كسبت!. وقد وردت آيات الصيام في سورة البقرة التي سماها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: سورة التقوى، أو الأتقياء لكثرة ورود التقوى فيها، بل هي محور السورة ومرتكزها، وانحراف بني إسرائيل عن التقوى والمراقبة لله واستبدالهم بغيرهم لينظر كيف يعملون مما فصلت فيه تلك السورة. ويلاحظ أن أغلب الأحكام التشريعية التكليفية في سورة البقرة ختمت بالتقوى كالرضاع، والطلاق، والربا، والجهاد، والاستدانة، وأن آيات الصيام توسطت تقريباً تلك الأحكام، وهذا يعني أن الصيام هو العبادة الجامعة للتقوى والمراقبة والخادمة لتلك التكاليف التي حوتها تلك السورة وإيقاعها على النحو المراد للشارع الحكيم. إن سورة الطلاق على قِصَرها ركزت على التقوى كحل للخلافات الزوجية، وسبيل يقي الأُسر من الطلاق، والهدم للبيوت فتكرر الأمر بالتقوى وترتيب الجزاء عليه وانفراج الكرب بسببه في السورة 5 مرات، فإذا راقب الزوجان ربهما وتعلما التقوى من الصيام، لصبر كل واحد على الآخر ولأنصفه من نفسه، ولغفر له زلاته في بحر حسناته، وحين تستحيل الحياة ويكون الطلاق حلاً ودواء ناجعاً للأسرة تكون المفارقة بالمعروف، ولما رأينا تلك الصور المرذولة من الاتهامات الكاذبة، وكفران العشير بين الأزواج، وسعي كل طرف لتشويه الآخر، واستغلال ماله وثروته، دون تقدير لمصلحة الأولاد ومراقبة الله عز وجل فيهم. التقيت ذات مرة ألمانية مسلمة، ولاحظت نشاطاً وحماساً لها في المركز الإسلامي لا تتقاضى عليه أجراً، فسألتها عن سبب إسلامها؟ فقالت: اتخذت صديقاً عربياً، وعشت معه حياة الأصدقاء الأوروبيين حتى انقطع عني، فذهبت أسأل عنه، وكان ذلك في رمضان فوجدته مع أصدقائه يعدون الطعام وهم جياع ينتظرون في حب ولهف أذان المغرب لتناول الطعام، فسألتهم عن هذا السلوك العجيب فحدثوني عن الصيام. فتوقفت طويلاً عند سرية هذه العبادة وما تحمله من تربية عظيمة للصائم؛ حيث لا يرى عبادته وامتناعه عما يحب سوى الله، وكيف أن صديقي المسلم امتنع عن مواصلة العلاقة المحرمة في رمضان؛ لأن الصيام لا معنى له حينئذ، فالذي أمر بالصيام حرَّم الزنا وتوعَّد عليه، فكيف أصوم له ممتنعاً عن المباحات، ثم أقع في المحرمات!! فانطلقت الأخت تدرس الإسلام وتقرأ عنه، حتى أسلمت وتزوجت من العربي المسلم وكانت سبباً في استقامته وهدايته. وكانت صدقة السر سبباً في إسلام فيلسوف أوروبي شهير له عدد من الكتابات، وترجمة مهمة للقرآن الكريم، حيث كان في زيارة لمصر، ولما أُرهق من التجول في شوارعها جلس يستريح بين النوم واليقظة على هيئة السائل الذي يمد يده. فجاءت امرأة متحجبة مسنة تعطيه صدقة في يده، وظلت تتحسس المارة فكلما اقتربت منه ظهر شخص فأخفت يدها، حتى اطمأنت أنه لا يراها أحد، فأعطته الصدقة وولت مسرعة. وظل الرجل يبحث عن تفسير لتصرفها، حتى قابل إماماً لمسجد في بلده الأوروبي حيث يعيش فسأله: فقال له: إنها تريد إخفاء صدقتها؛ لأن صدقة السر أجرها عند الله أكبر من الصدقة العلنية، حيث تقاوم غريزتين في نفسها: حب الثناء على هذا الفعل، وشُح النفس، فأعجب الفيلسوف بهذا التفسير وبدأ رحلة القراءة والبحث عن الإسلام، حتى شرح الله صدره بعد بضع سنين. إن صور الفساد التي تملأ عالمنا اليوم ستنتهي أو تنحسر يوم أن تستيقظ الضمائر ويتحلى الناس بمراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وقد أطال العارفون وأهل التصوف الحديث عن ذنوب الخلوات وأنها أصل الانتكاسات، لأنها تعني عدم تعظيم الله عز وجل في قلب العبد، وتقديم الخوف من الخلق وخشيتهم، على الخوف من الله تبارك وتعالى. وصاحب الخلوة الخبيثة لا تكتمل عبوديته لله عز وجل كما قال مطرِّف بن الشخير: "إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل: هذا عبدي حقاً". واعتبر العارفون سيئة السر مُضيِّعة لحسنة العلن فقالوا: سيئاتك في الخلا تذهب بحسناتك في الملا. سادساً: تقوية الإرادة وترويض الغرائز الصائم يمتنع في صومه عن تلبية نداء غريزتين من أقوى وأعتى الغرائز، وهما البطن والفرج. والإنسان بطبيعته يميل ويحب ما يُمنع منه، فإذا نجح الصائم في السيطرة على هاتين الغريزتين فيما هو مباح في دورة تدريبية لثلاثين يوماً، فهو قادر على قيادة نفسه أمام عاداتها وشهواتها الأخرى، ولهذا فإن شهر رمضان فرصة للتغيير، وإصلاح النفس وتهذيبها، والتخلص من عادة مضرة، أو شهوة، أو معصية عجز المسلم عن الخلاص منها على مدار العام. فمن صام عن الطعام والشراب في رمضان، يستطيع أن يصوم عن التدخين بعد رمضان، ومن صام يستطيع أن يتخلص من التعلق المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي، وأن يمنحها وقتاً محدداً من يومه وليلته فيما يفيد، وأن يتجنب مخاطرها وأضرارها التي وصلت حد الإدمان لدى قطاع كبير من الشباب، وصارت من أهم أسباب تصدع الأسر وانهيارها، وشيوع الخيانات الزوجية بمستوياتها المختلفة. سابعاً: معرفة قيمة الوقت يترقب الصائم أذان المغرب والفجر، الأول ليفطر، والثاني ليمسك، وينظر في ساعته ويتأكد من ضبطها، ويسأل المفتين، ويتحرى لعبادته إن أخطأ في دقيقة فأكل مبكراً أو متأخراً؛ لأنه يخشى أن يفسد صومه أو لا تصح عبادته، وذلك بسبب دقيقة. وهذه الدورة التدريبية المستمرة لثلاثين يوماً تعلم الصائم أن الدقيقة لها ثمن، وفيها عمل يجب أن ينجز وسيحاسب المرء عليها يوم القيامة كما جاء في الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: .. وعن عمره فيما أفناه". عندما يزور العرب أوروبا ينبهرون بمواعيد القطارات والحافلات ويلاحظون أن موعد القطار يكون قبل رأس الساعة بدقيقة أو دقيقتين (فيكون مثلاً: 10:59) ويحلل ذلك في إعجاب بأنه التربية المقصودة على احترام الوقت، وكيف أن القطارات في بلادنا تتأخر بالساعة ولا يعتذر للناس أحد، بل من طريف ما حكى في بلد عربي: أن يخرج القطار قبل موعده! إن الصيام يحقق هذا الهدف ولو وعاه المسلمون لكانوا أكثر الأمم تقديراً للوقت وحفاظاً عليه والتزاماً به، ومن أراد الخروج بفائدة عملية للحفاظ على وقته في شهر الصوم، فليضبط ساعة محددة لمواقع التواصل في اليوم ينجز فيها ما يريد إنجازه والتواصل معه، وليقاوم رغبات نفسه كما قاومها في الطعام والشهوة، فبحسب دراسة متوسط ما ينفقه الشباب في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي 3 ساعات يومياً، وهذا يعني أن يفقد الإنسان من مجموع عمره قرابة 7 سنوات فيما لا يفيد وهو يعلم أن الوقت هو الحياة، وأن رأس مالنا الأكبر هو الزمن، وأن الدقيقة التي تفوت يقترب المرء بها من القبر، ويتحسر عليها حين يعجز ويمرض. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :