أجمع رعايا مملكة الرقراق على أن رئيس جمهورية الواق واق الذي زار مملكتهم كان غايةً في التكبر والعجرفة والغطرسة، شديد الاحتقار لثقافتهم وطريقة حياتهم؛ إذ بدا ذلك للأعمى منهم والبصير، وللغبي والذكي، ولذي الغفلة وذي الفراسة على حدٍّ سواء. لقد كان رئيس الواق واق يؤمن أن نظامه الجمهوري أعظم من نظام مملكة الرقراق وغيرها من الممالك والإمارات. وكان ينظر إلى أسلوب حياة الرقراقيّين وأمثالهم نظرة ازدراء لاختلاف هذا الأسلوب كلّياً عن أسلوب حياة مواطنيه؛ فكأن العالم أضحى قصعة من الأرزّ والصنوبر والزبيب بين يديه، فجاء بعض الذباب وحامَ على مسافة منها، فما كان من صاحب القصعة إلا أن تركها وقام يبحث عن الذباب هنا وهناك. يا صاحب القصعة.. دع الذباب في حاله ما دام بعيداً عن قصعتك، ثمة صواعق كهربائية معلقة تفي بالغرض، ركز على الصنوبر والزبيب الذي يلمع في السمن البلديّ، واملأ كرش الوجاهة وادحُهُ وكوّره، فوالله لن يسلُبك الذباب شيئاً؛ إذ لا طاقة له على حمل صنوبر ولا زبيب، وحسبه لحسة من شيء نكرة أو زيت رديء على أداة مطبخ أهملها كبير الطهاة في مطعم خمسة نجوم. يا صاحب القصعة.. دع الذباب في حاله ما دام بعيداً عن قصعتك. ابتكر أي لعبة أو وسيلة لهو: افرز بين الأرزّ والصنوبر؛ تمتع بلمعان السمن تحت الأضواء؛ اطلب من مدير المطعم أن يشغّل لحن فيلم "العرّاب" الرخيم، كلها خير من مطاردة كائنات حقيرة لا تفقه لهواً ولا لمعاناً ولا لحناً رخيماً. يا صاحب القصعة.. ما لم يعلمه الناس من خفايا الاجتماع بين الملك والرئيس هو أن الاجتماع كان غريباً وطريفاً إلى حدٍّ لم أرَ مثله في حياتي، التي قضيتُ معظمها في ترجمة اجتماعات الملك الحليم مع زعماء العالم، على الرغم من علمي باهتماماته الثقافية وسؤاله لي أحياناً عن ترجمة بعض المصطلحات الخاصة بالمنطق وفلسفة السياسة، أو عن أصل كلمة غريبة، حتى إذا قلت له إن أصلها غير معروف، ضرب كفاً بكف وقال: "الكلمة التي لا يعرف أصلها كالرجل الذي لا يعرف نسبه". افتُتح الاجتماع بعبارات لطيفة مبتذلة، ثم تحول إلى مواضيع الاقتصاد، ثم انتقل إلى حوار منطقي عجيب: الرئيس: جلالة الملك، إني لأعجب من أمركم وأمر مملكتكم! أما آن الأوان لتتحولوا من هذه المفارقة التاريخية التي أنتم فيها؟ أما آن الأوان لتتبنوا شيئاً من الديمقراطية، ولو بالتدريج، فتمكنوا شعبكم من جني ثمراتها؟ الملك: فخامة الرئيس، أشكر لكم اهتمامكم بأمر مملكتي، ورغبتكم في تحسين ظروفها. لكن هل تسمح لي بنقد ديمقراطيتكم نقداً قائماً على أسس المنطق والفكر؟ الرئيس: تفضل يا جلالة الملك. الملك: ماذا تعني بالديمقراطية؟ وهل عندكم نصفها أم كلها؟ الرئيس: "الديمقراطية" أصلها يوناني، وتعني حرفياً "حكم الشعب". وجمهورية الواق واق التي أنتمي إليها قد أخذت بجميع أطرافها، حتى أصبحت مثلاً يحتذى لكل من يريد تعلم مبادئ الديمقراطية. الملك: أنت تقول: تعني "حكم الشعب"، ولكنك أنت "الحاكم" فكيف يستقيم ذلك؟ الرئيس: شعب الواق واق انتخبني، ولو على نحو غير مباشر! الملك: وكيف عرفك الشعب وعرف حزبك؟ وكيف أدرك أنك الأصلح للزعامة من بين المرشحين؟ الرئيس: الشعب عرفني من وسائل الإعلام الحرة. الملك: هل حرية وسائل إعلامكم مطلقة أم مقيدة؟ الرئيس: حريتها واسعة، مع بعض القيود لضرورات حفظ الأمن والنظام. الملك: أليس وجود "بعض القيود"، كما ذكرت، يهز ديمقراطيتكم من الأساس؟ أليس من حق شعبكم أن يعرف كل شيء عن المرشحين دون أي قيود على المعلومات؟ وهل ثمةَ مديرون يوجهون الصحفيين والإعلاميين، أم لا؟ الرئيس: نعم، ثمة مديرون. الملك: فهل انتُخِبَ هؤلاء المديرون الإعلاميون بطريقة ديمقراطية؟ الرئيس: لا، وما الحاجة إلى ذلك؟ نحن نسمح بحرية إنشاء المؤسسات الإعلامية لمن يملك المال والرغبة. الملك: إذاً أنت اعترفت الآن أن المديرين الإعلاميين عندكم لم يُنتخبوا بطريقة ديمقراطية، فأحب أن أسأل: هل لهم تأثير على رأي الشعب فيك وفي المرشحين وقتَ الانتخابات أم لا؟ الرئيس: نعم، لهم تأثير. كيف لا، وهم الذين يشرفون على الإعلاميين الذين يعملون عندهم. الملك: إذاً، فأنت الذي انتخبك، في المحصلة، ليس الشعب، وإنما مديرون إعلاميون أوصلهم مالُهم ونفوذهم إلى سلطتهم بطريقة غير ديمقراطية. فهل يمكن للمرء أن يجني من الشوك العسل؟ أو أن يتناول من اليد المتسخة تفاحة نظيفة؟ الرئيس: أعد عليّ ما قلت، يا جلالة الملك! الملك: "الذي انتخبك، في المحصلة، ليس الشعب، وإنما مديرون إعلاميون أوصلهم مالُهم ونفوذهم إلى سلطتهم بطريقة غير ديمقراطية". الرئيس: جلالة الملك، هلّا تركتني أستجمع أفكاري لبعض الوقت. أطرقَ رئيس جمهورية الواق واق بضعَ دقائق، كان الهمّ بادياً على وجهه الأبيض المشرب بالحمرة، وكان يمسح جبينه بين الحين والآخر بمنديل أبيض كمنْ يجفف عرقاً لا وجود له من الأساس؛ إذ إن القاعة كانت باردة نسبياً. الرئيس: إذاً، فالحل هو أن أفرض نظاماً ديمقراطياً لانتخاب كل مدير لمؤسسة إعلامية؟! الملك: مستحيل. الرئيس: لِمَ؟ الملك: كيف تنتخب المدير الإعلامي على نحو ديمقراطي في بيئة يحكمها مديرون إعلاميون جاءوا من طريق المال لا الديمقراطية؟ الرئيس: إذاً، فأنت ترى أن نزيح الجميع من مناصبهم، ثم نجري انتخابات شاملة؟ الملك: لا يمكن أن تكون هذه الانتخابات الشاملة نزيهة إلا إذا محوت تأثير إعلامهم السابق من أدمغة الناس وأفئدتهم قبل إجراء الانتخابات. الرئيس: وكيف ذلك؟ الملك: لا سبيل إليه. الرئيس: إذاً، فبحسب هذا المنطق، الديمقراطية مستحيلة؟! الملك: هي مستحيلة كما تفضلت، ولله حكمة في هذا الأمر لا يحيط بها الناس. وفي كتابنا العزيز آية تؤكد ذلك: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). الرئيس: والله لقد درستُ كلام سقراط وأفلاطون وأرسطو فما رأيت منطقاً مثل هذا المنطق! وسأراجع محضر هذا الاجتماع ألف مرة حتى يطمئن قلبي إلى رأي في هذا الأمر الجلل. أيعقل أن نظامنا في جمهورية الواق واق باطل وضحك على الذقون؟ أيعقل أن الدروس التي نلقنها لأولادنا عن محاسن الديمقراطية وبركاتها تعسفية وجائرة؟ ابتسم الملك ابتسامة لطيفة، وأومأ برأسه قائلاً: لقد شرفتني بهذا الحوار يا فخامة الرئيس، ويعلم الله أني أتجنب الخوض في مثل هذه المواضيع مع معظم الزعماء، إلا أنني رأيت أهمية الكلام معكم في هذا المجال لإزالة سوء الفهم وتمتين الأواصر بين بلدينا وشعبينا لمصلحة الجميع. هذا ما أتذكره من الاجتماع، ولن أنسى ما حييتُ ذلك الوجومَ الذي خيّمَ على محيا الرئيس نهايةَ الاجتماع. ولعلي أراجع المحضر ألف مرة، مثله، حتى يطمئن قلبي وتسكن نفسي في ذلك الأمر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :