د. نسيم الخوريتمر العقود بعضها وراء بعض في أزمنة العرب، ولا تعثر موضوعياً على تفسيرات مقنعة لظلاماتها وظلماتها وغياب العدالة فيها إلا عبر لمحة معبرة لصديق في الأمم المتحدة يحزم حقائبه نحو التقاعد بعدما عمل فيها ثلاثة عقود: «لم نتقدم خطوة واحدة. قضيت عمري في الأمم المتحدة «حكي بحكي» أوراق papers ومؤتمرات workshops وطاولات مستديرة وأسفار وقاعات مبردة، ثياب جميلة وياقات، فنادق، سهرات، ولائم، تمنيات، بيانات ختامية، لجان صياغة وتوصيات، معارف دولية، رواتب عالية، زمان دوار كمن يعلك الماء. إذن؟لا يثق العالم بنا. لماذا لا يثقون بنا؟ لا أعرف. لم أسمع منهم جواباً مقنعاً. فعلاً: dont they trust us? Why كرر بالإنجليزية.هذا سؤال تاريخي عفوي مطروح ووجاهته تستأهل التأمل والتفكير. لماذا لا يثق العرب والمسلمون بالأمم المتحدة وبالعكس؟ ولماذا لا يفرق الناس بين دول الأمم المتحدة وأمانتها العامة ومنظماتها الدولية المتخصصة؟ما الذي يحول دون تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالحقوق العربية؟ ومن هذا الذي يفرغ الأمم المتحدة من رسالتها في منطقتنا خلافاً لبلدان العالم ؟هل أن الأداء العام للأمم المتحدة هو السبب أم أن استراتيجياتها الخاصة ببلادنا باردة غير عادلة، مطعون بها منذ فلسطين مثلاً، ولا ما يقربها من الناس والأشياء والأحداث؟ رأى ستيفان دي ميستورا أن أي عربي سيجد صعوبة في التحدث عن فلسطين، مثلاً، من دون انحياز وإلا فإنه سيوصم بالخيانة من أقرانه، ولهذا أمام الأمم المتحدة مشكلة إيجاد الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الثقافة الموضوعية. هذه رؤية غير موضوعية. لماذا ترفل الأمم المتحدة منذ تأسيسها بالثياب السياسية والدبلوماسية الغربية على الرغم من كونها شديدة الالتصاق في مهماتها بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية الكونية؟ المسافة بين الثقة والعدالة هائلة تحتاج إلى لغة ورؤى مشتركة، وما يزيد من تعقيدات هذه المسافة أن بلادنا هي منبع لكنوز الأرض لا حدود لها لحاجات البشرية وطمأنينتها وكنوز السماء التي قدست هذه البقعة من الكرة الأرضية. فبأي سراج نبحث اليوم عن العالم المفتقر إلى النبعين. إنها مفارقة هائلة تتجدد بين الشرق والغرب، مع أن العولمة بمعانيها الواسعة طمست أو أشاحت وهزلت ممن لا يزال يقول بالمفارقات والفروقات بين شرق وغرب. يحصل التيه بين السماع والإصغاء وتتزاحم هذه الأسئلة وغيرها في الداخل ونستغرق في البحث وخلف صديقي علم الأمم المتحدة بزرقته وغصن الزيتون يتقدم المشهد بين أعلام الدول الأعضاء ودول العالم. صحيح قلت إن شجرة الزيتون بركة أمام مباني الأمم المتحدة والمباني الرسمية والساحات العامة في لبنان وأكثر من بلدٍ عربي لكأنها هي موضة العصر، لكنها الشجرة التي سحبتني منه إلى جدنا فارس الخوري مندوب سوريا في مؤتمر سان فرانسيسكو (يونيو/حزيران 1945) الذي اقترح مصراً على تخصير رسم الكرة الأرضية في العلم الدولي بغصن الزيتون رمزاً للسلام العادل والشامل بين الشعوب. استلهم الرجل الفكرة من طفولته المدموغة بالزيت والزيتون في الكفير من الجنوب اللبناني. ونحن اليوم نتفرج على أجسادنا وساحاتنا تطوق بالزنانير الجاهزة للتفجير أو المتفجرة بما يملأ نشرات زمننا المعاصر. أكثر من ذلك نسحب اليوم الخرائط المستوردة ونبحث عن أعلامٍ جديدة لبعض الدول العربية وقد استقر فيها الخراب، ونتشاجر على الصيغ الكثيرة المستنسخة تحت عناوين دينية والأقليات وتنازع الحصص والفيدراليات والكانتونات. هذه هي الصورة التي تشوه الدين والاقتصاد والحضارة.! لا تلفتنا صورة المستقبل، ونهدر في جدلٍ بيزنطي عقيم: ماذا نسمي مئات ألوف السوريين الذين فروا من سوريا إلى لبنان؟ نتخاصم بين تسميتهم نازحين تسهل عودتهم إلى بلدهم أو لاجئين وللتسمية هذه أعباؤها في أدبيات الأمم المتحدة ومصطلحاتها باعتبار أن اللاجئ صاحب حقوق تكفلها الدولة التي فتحت له أبوابها قبل أن يصل إليها. وكأن المصطلح يغير في الواقع شيئاً. عندما سئل الرئيس فارس الخوري وكان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سوريا، عن الذكرى التي لا ينساها في حياته، قفزت إلى لسانه قصة غصن الزيتون والسلام بين الأمم، وقال: « من الذكريات التي لا أنساها... في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي لم نُدعَ إليه في بادئ الأمر، وبذلنا جهوداً جبارة لكي ندعى إلى ذلك المؤتمر ونجحنا. وفي خلال هذا المؤتمر التاريخي بذلت جهد المستميت لتحقيق غرضين، الأول هو تدوين عضويتنا الرسمية في هذا المؤتمر، والثاني إدخال نص في الميثاق على أن الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة هم دول مستقلة استقلالاً تاماً ناجزاً ولا يجوز إخضاع هذه الدول لأي نظام من أنظمة الوصاية والانتداب. وعندما جلست بدوري لأوقع على ميثاق الأمم المتحدة أسوة برؤساء وفود الدول الخمسين الذين اشتركوا بوضع هذا الميثاق وتوقيعه،استشهدت بعبارة لأبي بكر الصديق حينما ولي الخلافة أنه قال: «سيكون قويكم ضعيفاً عندي حتى آخذ الحق منه، ويكون ضعيفكم قوياً حتى آخذ الحق له». كان الجواب: متى نثق بأنفسنا؟
مشاركة :