في مطلع الشباب دعاني أحد أثرياء الصعيد لقضاء يوم في مزرعته، وكانت المزرعة عامرة بكل ما لذ وطاب، فقدم لى من بين ما قدم مانجو فاخرة كان يتباهى بأنه زرعها بيديه.. وكان يتناولها بشغف ظاهر، ووقتها قال لي مقولة لم أنسها إلى اليوم، وهي ان من لا يزرع لا يأكل، قاصداً ان من يعتمد على زراعة غيرة لا يستطيع أن يأكل، لان تلبية احتياجاته تكون رهناً بإرادة غيره الذي يستطيع أن يمنحه هذه المنتجات كما يستطيع أن يحرمه منها، وفي رأيي ان ما ينطبق على الزراعة ينطبق أيضا ومن باب اولى على الصناعة، فمن لا يصنع لا يستطيع أن يستهلك، هذه المقولة ليست مقصورة على الأفراد، وإنما هي تشمل الدول ايضاً، فالدول المنتعشة اقتصادياً تعتمد اعتماداً كلياً على منتجاتها، فلا يستهلك أبناؤها إلا منتجات بلدهم، فما من أمة تتقدم وهي تعتمد في حياتها على ما يصنعه غيرها، فمن يعتمد على الاستيراد لتلبية حاجته من الصناعات يجرم في حق نفسه وفي حق بلده، فهو لا يستورد المنتجات فقط، ولكنه يستورد أيضا أدوات الإنتاج من مواد خام وأيدي عاملة ومصممين ومهندسين ومخططين، ولا يجوز التعلل بنقص المواد الأولية، فمن نعم الله علينا انه يوزع المواد الأولية على مناطق العالم بالعدل والقسطاس، فإذا انعم على دولة بوفرة في مادة معينة فانه يحرمها من مادة أخرى ليتم تبادل المادتين بين الدولتين، فإذا تبادلت الدولتان المواد الخام التي تتوافر لكل منهما فإنهما تتكاملان، ولا بد أن يتم التبادل هنا في المادة الخام وليس في المنتج النهائي بحيث لا تستورد الدولة من دولة آخرى إلا ما ينقصها فعلاً، وقد يكون هذا النقص لأمد محدود تستغني بعده عن الدول الاخرى، فإذا احتاجت دولة ما إلى منتج معين لا يمكن تصنيعه الا بخبرة معينة فإنها تستورد الخبراء حتى يدربوا العاملين بها إلى أن يأتي اليوم الذي تستغني فيه عن هؤلاء الخبراء ، وتلجأ الدول عادة إلى السلع ذات الماركات التي استقرت وأصبحت لها شهرة عالمية تلجأ إليها لا لتستورد منها المنتج النهائي وإنما لتتعاقد معها على إنتاج ذات السلعة بذات الكفاءة ولكن بعقول وطنية وأيد وطنية بحيث يجد المستهلك دائماً أمامه ذات المنتج النهائي الذي تعود عليه، ولكن بأيدي أبناء بلده، إن جولة واحدة في الأسواق تؤكد لنا ان العالم كله يتجه إلى التصنيع، فإذا سألت عن البلد الذي صنعت فيه السلعة التي تعتزم شراءها فإنك ستندهش أنها صنعت في بلد في مستوى بلدك ولكنه حصل على حق إنتاجها تحت ذات المسمى، فلو توجهت الي بائع «بدل» مثلاً فانك ستجد الماركات العالمية الشهيرة التي اعتدت شراءها ولكنها ليست مصنوعة بأيدي ابناء البلد الذي يملك هذه العلامة وإنما مصنوعة في بلاد اخرى كماليزيا وباكستان او الهند أو اي دولة أخرى تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة، لان المعلومات الفنية لم تعد حكراً على دولة دون أخرى، وقد لاحظت هذا في غالبية البلدان التي زرتها، فكلما تمسكت باسم معين لأنني اعتدت ان استخدمه ووضعت فيه كل ثقتي لان التي تنتجه شركة محترمة تحافظ على اسمها إذ بي أجد هذه السلعة بذات الاسم وبذات الجودة ولكنها مصنوعة بأيدي أبناء البلد الذي أزوره، وقد حدث ذات مرة وانا أزور نيويورك ان توجهت الى المحل الشهير «ميسيز» لأبحث عن بنطلون قصير (شورت) استخدمه في الرحلة وبعد البحث وجدت ضالتي (شورت) في غاية الاناقة: اللون الهادئ الجميل والنسيج الذي يوحي بالاحترام والصناعة الدقيقة ويحمل اسم ماركة عالمية مشهورة فقررت شراءه، ولكن قبل ان ادفع الثمن حانت مني التفاتة الى البلد الذي صنعته، وكم كانت سعادتي حين وجدته مكتوباً عليه صنع في مصر من قطن مصري ١٠٠ في المئة وما يسري على الملابس يسري ايضاً علي أي سلعة أخرى كالسيارات والكمبيوترات والكاميرات وأدوات التجميل.. كل هذه الأشياء تصنع في دول عديدة ويفيد منها أبناء الدول التي تُصنّعها بالطريقة التي تحمي اقتصادها وتعزز مكانتها في السوق ولهذا حق لنا أن نقول ايضاً: «ان من لا يصنع لا يستهلك». المستشار عادل بطرس a.botrosfarag@gmail.com
مشاركة :