«كل الناس كاذبون»... الحقيقة تكمن في سبل تأويلها

  • 6/12/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

«لا نرغب في أي شيء غريب عنا، ومع ذلك تستحوذ علينا الأشياء الغريبة بسطوة لا تقاوم. إنها تشدنا وتفزعنا في الوقت نفسه». يتّضح هنا مبلغ التناقض والكذب حتى على الذات في رواية «كل الناس كاذبون» للكاتب والروائي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، الذي ذاع صيته من خلال أعماله التي كرّست غالبيتها لتأريخ القراءة، وقد اشتهر كتابه «تاريخ القراءة» الذي ترجم إلى اللغة العربية في العالم العربي، إضافة إلى أعمال أخرى تحمل النسق ذاته كـ«يوميات القراءة» و«المكتبة في الليل» و«فن القراءة». يظهر مدى افتتان مانغويل في القراءة من خلال العمل الروائي الأخير وتطرقه إلى كثير من أدبيات أميركا اللاتينية. ونقل الشاعر السوري جولان حاجي هذا العمل الروائي إلى اللغة العربية عبر دار الساقي، في عام 2016، محتفظاً بجمالية اللغة وكثافة الوصف، مع وجود تغييرات حاكها المترجم لتتماشى مع السياق، بدءاً بعنوان الرواية الذي تم تغييره عند ترجمته إلى اللغة العربية من «كل الرجال كاذبون» ليصبح «كل الناس كاذبون»، متضمناً بذلك كلاً من الرجل والمرأة في اختلاقهم الأكاذيب. وكما يعكس عنوان العمل الروائي فإن أجواءها مزدانة بعوالم من قصص مختلقة تلتف حول الشخصية المحورية لكاتب يدعى أليخاندرو ببيلاكوا، حسب رؤى كل من له معرفة مسبقة به، ليشمل ذلك كاتباً خصماً له وحبيبة مفتونة به ورفيق زنزانته في السجن، إضافة إلى ألبرتو مانغويل نفسه. الأمر الذي يتسبب بتضارب وجهات النظر وفشل محاولات الصحافي الفرنسي فك لغز شخصية أليخاندرو وعجزه عن ربط الأحداث المتناقضة.الرواية تبدو كأنها أشبه بقولبة مقولة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الشهيرة: «لا توجد حقائق، فقط تأويلات» وتحويلها إلى رواية. إذ يختلف في كل فصل منها تأويل حياة ببيلاكوا وطبيعته حسب رؤى السارد، وما بين تراديوس الذي يعد خصماً له، ويعكس سرده مشاعر متضاربة حياله تمازج ما بين بغض وافتتان يتضخم فيصل إلى مرحلة الهوس والتتبع لقصته، مما أفضى به إلى أن تتلاحم ذكرياته وماضيه مع حياة الآخر إلى الحد الذي لم يعد يعرف فيه إن كان البيت الذي لا يتذكره جيداً هو بيته أو ما وصفه له غريمه. وتظهر شخصية العاشقة أندريا الشغوفة بتفاصيل حياته وشخصيته لتنقض كل ما يحكى ضده. ذلك الافتتان أفضى بها إلى اكتشاف مخطوطة رواية «مديح الكذب» ونشرها، الأمر الذي تسبب بتتابع الكوارث بين حالة انهيار أليخاندرو وذهوله، وحدوث لغط كبير حول تحديد هوية صاحب العمل، والتفاوت بين متقبل للعمل ورافض له. وبأسلوب تهكمي يظهر ألبرتو مانغويل نفسه كأحد شخوص الرواية ليتعرض إلى انتقاد وتقريع لاذع لرؤيته السلبية حيال ببيلاكوا. تلك النظرة التهكمية تمتد إلى تفاصيل شخوص الرواية، فحتى الحب يقع ضحية عقلنة كل شيء وتفكيكه. «أعلم أن جميعنا في الحب حمقى، فنسمح لأنفسنا بأن نخلق أشباحاً ترضينا لتحل محل أحبتنا. أو بالأحرى، نخلق شبحاً يلج إلى داخل الشخص الملموس الذي نراه أمامنا، فيسكنه وينظر إلينا من وراء عينيه».يعكس العمل الروائي قدرة على التصوير الحي للأمكنة ومشاهدها الأثيرية التي يلتبس فيها الواقع بالخيال، كظهور أشباح شخصيات غادرت الحياة لا تفتأ تطارد الشخصيات الأخرى وتمعن في زيادة قلقها. وتظهر بعض الوقائع من دون اختلاف في الرؤى، كالتجارب القاسية التي عاشها ببيلاكوا كتيتمه في سن صغيرة واحتباسه في السجن، كما يسرد الحدث، رفيق زنزانته مارثيلينو أوليبارس. فيما يظهر العيش في المنفى بعيداً عن موطنه الأرجنتين، بعد مغادرته لها في سن صغيرة، بمثابة متسبب بجدل آخر عقيم، فحتى حنينه إلى الوطن يتقاطع مع إحساسه بالحنين إلى الماضي «لم يكن يشتاق إلى المكان، بل إلى لحظة مضت، تضاريس الساعات الضائعة في شوارع لم يعد لها وجود».وتتجلى براعة مانغويل هنا في قدرته على نسج الأحداث في أماكن كثيرة تتنقل ما بين إسبانيا والأرجنتين وكوبا وفرنسا، ومن خلال رواة متعددين وحقائق متفاوتة، يظل كل شخص منهم متمسكاً بنسخته من الحقيقة. فيما يظهر اختلاف مدى معرفتهم بما يحدث حولهم ويتم الكشف عن الأحداث المفصلية تدريجياً بأسلوب مراوغ بديع.من جهة أخرى، يتجلى بشكل كبير تأثر ألبرتو مانغويل بتاريخ القراءة، وقد اختار لروايته شريحة المثقفين من المغتربين من أميركا اللاتينية في إسبانيا، ليقدم من خلالهم احتفاء مستمراً بالأعمال الأدبية التي تعكس حقبات مفصلية في تاريخ أميركا اللاتينية، وما ترتب على ذلك من ثورة لمثقفيها، وتتداخل هذه الاستشهادات مع أحداث الرواية وتركيبة شخصياتها التي تعيش في أبراج عاجية تؤثر الأحلام على الواقع الملموس. فيما يظهر الكتاب كانطوائيين محبطين ممتنعين عن الكتابة في أكثر من سياق، وإن كان «في غياب العمل وعد بأشياء عظيمة سوف تأتي»، ليأتي مشروع الكتابة «على شاكلة أي شخصٍ آخر تأسره الكتب»، فيما برزت فكرة إضافة كتابه إلى المكتبة العالمية «فكرة شيطانية الغواية». يظل المحرّك الرئيسي لأحداث الرواية هو ذلك التشكك في طبيعة شخصية ببيلاكوا إن كان نابغة متحذلقاً ناجحاً في إغواء الآخرين، أم شخصاً انهزامياً مصاباً بذعر مستمر من المحيط ورغبة في التلاشي بعيداً عن الأضواء في عالمه الخاص.

مشاركة :