مطعم «هاشم» الأردني شاهداً على تاريخ مفتوح

  • 6/13/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

عمّان المنقسمة عمودياً وأفقياً والمتلذّذة بخصوماتها العابرة، حزينة اليوم على رحيل صاحب أشهر المطاعم الشعبية في المدينة الحاج هاشم الترك، الذي أطلق قبل نحو نصف قرن «مطعم هاشم» الشهير في وسط البلد، فأطعم الأردنيين «من شتى الأصول والمنابت» الفول والحمص والفلافل. ففي مدينة كانت تنام بعد نشرة أخبار الثامنة مساء، نهض من يوقظ السبات من غفوته، ويطيل عمْر السهر حتى مطلع النهار الموصول بليل لا انقطاع فيه. فالمطعم مفتوح ولا أبواب له، فهو لا يغلق، ولا يعرف الأقفال. وعلى مقاعده البسيطة كان يجلس الناس جميعاً ويتقاسمون الخبز والشاي بالنعناع وحبات الفلافل الخارجة للتو من المقلى الفوّار بالزيت، وكان صوت «أم كلثوم» يشمل الليل بحنانه، فيغدو الجميع إخواناً تغمرهم السكينة والوجع الواحد والآهات الساخنة الفوّارة كالزيت. ومع الأيام تطوّرت المدينة، وظل «هاشم» في مكانه لا يتزحزح. الزمان يشيخ وهو عصيّ على الكهولة، حتى أضحى المطعم الشعبي أحد رموز المدينة، تماماً مثل «سبيل الحوريات» الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار من المطعم الذي يواصل حواره الحضاري مع نبع الماء الذي يعود إلى القرن الثاني الميلادي، وكان يسقي مدينة فيلادلفيا، الاسم اليوناني القديم للعاصمة الأردنية. في «هاشم» انعكس الشغف الأردني الحقيقي بالحياة، فأنت ترى الأجانب على اختلاف جنسياتهم، وترى الرجال الملتحين والنساء المحجبات يجلسن بجوار اللابسات الجينز والتيشيرت الحاسر للكتفين، وأولئك الليبراليين الذين يضعون صورة غيفارا على صدورهم. وقد تفاجئك وأنت منهمك في وجبتك جلبة بسيطة تعلم بعدها أنّ الملك عبدالله الثاني وعائلته قادمون لتناول العشاء بقربك، وستسمعهم يطلبون الفول والحمص والفلافل والشاي بالنعناع، ويدفعون الحساب ويغادرون. ولعل في اسم المطعم ما يوحي بهذه الممارسة التي عزّ نظيرها في عالم العرب. الأردنيون حزينون حقاً على رحيل الحاج هاشم الترك، ولا أحد يفتّش عن مسقط رأس الرجل، ولا يكترث إن كان جده فلسطينياً أو شامياً أو من بلاد الشيشان. يعرفون وحسب أنه لوّن سهرهم بأمل ظلّ يمسك بعروقهم ويسندها ويحميها من الانفجار. وظل في غمرة الجنون المستعر للأسعار أكثر المطاعم التي يمكن الفقراء أن يدعوا أصدقاءهم إليه، ويلتقطون برفقتهم الصور وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي، وربما يؤثثون تلك اللحظة ويحرسونها من النسيان، فيرفقونها بفيديو. وعلى ذِكر الفيديو، يحضر الآن، في الزمن الذي يلفظ فيه مؤسس «هاشم» أنفاسه، سجالٌ مؤلم وقبيح عن «الأصول والمنابت» في أعقاب نشرٍ خبيث لشريط فيديو سقيم جرى تصويره في نادي الوحدات الرياضي لأمسية ثقافية اشتملت على حماقات لا تصدر إلا عن فتية مراهقين طائشين لا بوصلة لديهم. وكان السجال ذاته اندلع، كزوبعة في فنجان، بعد هتافات نادي الفيصلي التي اعتبرت مسيئة لفلسطين ومؤيدة للإسرائيليين، وصدرت عن فتية لا يقلّون رعونة عن أولئك الذي ظهروا في فيلم الوحدات. ولا يجوز أن يؤخذ التاريخ بجريرة حفنة من المأزومين الذين تكتظ بهم مدرّجات كرة القدم في مختلف أنحاء العالم. وقد يستهجن المراقب انخراط أشخاص ذوي عقول وازنة في هذا الهراء الذي يستدعي ماضياً مضى وانقضى. وما النفخ فيه إلا صيحة مخنوقة في واد ليس بذي زرع. الزرع وثماره هناك في وسط البلد التي سار في طرقاتها الرومان، وتبع خطواتهم البيزنطيون والأمويون والعباسيون والأتراك والهاشميون والشيشان والمهاجرون الفلسطينيون الذي تآخوا مع أشقائهم الأنصار، فصاروا جسداً واحداً وقدَراً واحداً، بعدما شربوا من بئر واحدة وأكلوا في «هاشم» من طبق واحد، وتقاسموا رأس البصل الذي سالت بسببه دموعهم!     * كاتب وأكاديمي أردني

مشاركة :