يشكل التصوّف تياراً رئيسا بين تياراتٍ أخرى تتقاسم السّاحة الفكرية والثقافية؛ وموَجِّها للعقليّة والذهنيّة، سواء في التصوف الشعبي أم في التصوف العالم. لهذا بات من الواجب والمفروض دراسة المدوّنة الصوفية دراسةً نقديّةً تحليليّةً، تكشفُ عن آليّاتها المُضمَرة، وبُناها المستترة، وتُعَرّي أفعالها من الخوارق، والكرامات. وهذا الكتابَ "بنية الخطاب المنقبي.. طلاق العقل وأوهام التاريخ" للباحث والمحقق المغربي د. عبدالسلام المنصوري يتناولُ الخطابَ المَنقبيَّ "وهو خطاب كرامات بالدرجة الأولى، ويُعدُّ ضرباً أساسياً من ضروب الكتابةِ الصوفية في أشكالها المختلفة" من مُختلفِ جوانبهِ، بدءاً من مُشكلةِ التّجنيسِ، مُروراً بالدوافِعِ المُحرّكة لكتابةِ هذا الخطاب، وصُولاً إلى الكشفِ عن عناصِرِ البِنْيَةِ في هذا الخطابِ، والتي تعْنِي أوّلَ ما تعني طلاقَ التاريخ. انطلقَ هذا الكتاب الصادر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" وفقا للمنصوري من فرضيّةٍ أساسيّةٍ مَفادُها أنّ سِيَرَ الأولياءِ إنما تعيدُ إنتاجَ السّيرةِ النبويّةِ، باعتبارها الأصلَ المُوجِّهَ للسّيَر كافة في التراثِ والتاريخِ الإسلامي، ومن ثم لم تكنْ هذه السّيرُ، باستمرار، إنتاجاً لتاريخِها الخاص، بقدر ما كانتْ إعادةَ إنتاجٍ لنموذجٍ سابق، وتاريخٍ مكتوبٍ وجاهزٍ. غير أن الآفة لم تتطرقْ إلى هذه السِّيرِ من هذا الجانبِ فحسب، بل إنّ السّيرةَ النبويّةَ ذاتها قد طالها من التّشويهِ والتّضخُّم ما انحرفَ بها عن مَقاصِدِها وغاياتِها، بل وحادَ بها عن رُوحِها، وعُمْقِ رسَالتِها، وهذا التشويهُ سيطالُ، تبعاً لذلك، سِيَرَ الأولياءِ والعُلماءِ التي نسَجَتْ على مِنوالِ السّيرةِ النبويّةِ. وقال: "نَاقشنا نموذجَ السّيرةِ النبويّةِ، ورَصدْنا مُجمَلَ التغيُّراتِ التي عَرفتها من خِلالِ عُنوانين أساسيين: "مِن مُعجزةِ النبيّ إلى نَبِيّ المُعجزات"، وتصَدّينا فيه لموضُوعِ المُعجزةِ الحسّيةِ التي لا تعدّ واقعَةً أساسيّةً في القرآن الكريم والسّيرة الصّحيحة، عكسَ المَسيحيّة مثلاً؛ إذ المُعجزةُ الحَقيقيّةُ والوحيدةُ للرّسُول صلى الله عليه وسلم هي القرآنُ الكريم، أما عشرات بل مئات المَعاجز التي تسَرّبتْ إلى مَتنِ السّيرةِ هي من إنتاجِ المُخيّلة العَربيّة، وهي تُبْدِعُ سيرةَ نبيّها، وقد حَللنا مُختلف العوَامل التي ساهمَتْ في إنتاجِ هذه المعاجز، منها ما يتعلقُ بقياسِ سيرةِ الرّسُول صلى الله عليه وسلم على قصصِ الأنبياءِ السّابقين، استناداً على مَبدأ الأفضليّةِ الشّاملةِ. ومنها ما يتعلقُ بانفتاحِ المُسلمين على باقي الشعوبِ والدّيانات التي كانت تمتلكُ رَصِيداً مَعاجزياً ضخماً؛ مما جعل الحاجَة ماسّة إلى اختلاقِ رصيدٍ مُقابل، يتصدّى لدعوى الأفضلية قياساً على مبدأ المُعجزات. ومنها ما يتعلقُ بظاهرةِ الغلوِّ والتقديسِ التي لابسَتْ سِيَرَ العُظماء عبر العصور. أما العنوانُ الثاني المُتعلّقُ بتحولاتِ السّيرةِ النبويّةِ فهُو "من تاريخِ المَعاش إلى تاريخ المَعاد" ورأينا من خلالِهِ كيف أنّ مُؤلفي السّيرة لم يكتفوا بكتابةِ سيرةٍ دُنيويّةٍ للرّسُول، بل كتبوا سيرةً أخرويّة، أي: سيرة ما بعدَ الوفاة، فتحدثوا عن مَقامِهِ يوم القيامة بين الأنبياء، وقُربهِ من ذِي الجَلال، والشّفاعةِ التي اختُصّ بها، ووقوفهِ عندَ الحوض... إلخ. هذا التاريخُ المفتوحُ سنجدهُ، لاحقاً، يتكرّرُ في سِيَرِ الأولياء، حيث لا تنتهي سيرةُ الوليّ بموتهِ، بل تستمِرُّ سيرتُهُ من خلالِ كراماتِهِ، وتوالي أنوارِ قبرِه، وتتالي أمدادِهِ، كما يظهَرُ في الرؤى، ويشفعُ في مُريدِيه يوم الحساب... إلخ. وأشار المنصوري إلى أن الكرامَةَ هي المُعادِلُ المَوضوعيّ للمَنقبة، ومن ثم فإنّ الخطابَ المنقبيّ هو خطابُ كراماتٍ بالدّرجة الأولى، على الرغم من الإلحاحِ الشّديد لمُؤلّفي الصّوفية على كونِ المَقصُود أصالة في التصَوُّفِ هو الاستقامة، وعلى اعتبارِ الكرامَةِ هامشيّةً في السُّلوكِ الصّوفي، حتى عبَّرَ عنها أحدُ كبارِ الصوفية بنوع من الاحتقار بأنها "حيض الرجال"، إلا أنه عند الإنجَازِ نَجِدُ أنّ الكرامةَ تقعُ في القلبِ من هذا الخطاب، وتُشَكّلُ قلبَهُ النّابض، وتيمَتَهُ الأساسيّة. والدّليلُ على ذلك أنّ الصّوفي لا يَحظى بشرفِ الحُضورِ في المُدوّنةِ المَنقبيّةِ إلا بنصابِ الكرامَةِ، فإذا غابَتِ الكرامةُ غابَ هو تبعاً، وطوَتْهُ ذاكرةُ النِّسيان. وبما أنّ الكرامة هي وريثةُ المُعجزة، وأختها من الرّضاعة، فقد عُدَّتْ، دوماً، بُرهانَ الولايةِ، كما عُدَّتِ المُعجزةُ برهانَ النبُوّةِ، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ المُعجزة والكرامَة من طينةٍ واحدةٍ، وطبيعةٍ مُتّحدة، وكل الفروقات التي يحاولُ متكلمو الصوفية انتحالَها بين المُعجزةِ والكرامة هي فروقاتٌ شكليّةٌ، لا ترتبِطُ بجوهرِ الخَرْقِ، وطبيعَةِ الفعلِ، بقدر ما ترتبِطُ بعناصِرَ خارجيّة تتعلّقُ بالدّعوى، والسّياق. وأضاف أنّ المُفارقة الأساسيّة، هنا، هي أن الكرامَةَ عُدَّتْ، دوماً استمراراً شرعيّاً للمُعجزةِ، ولما استمَرّتْ دورةُ النبُوّةِ من خِلالِ دوْرةِ الولايةِ، فإنّ المُعجزةَ استمرّتْ من خلالِ الكرامَةِ، ولما كانتِ المُعجزةُ ذاتُها في السّيرةِ النبويّةِ واقعةً غير تأسيسيّةٍ، وغير أصليّة، بل عُدّت استنساخاً لمُعجزاتِ الأنبياء السّابقين، أي: أنها مُجَرّد نُسَخٍ وظلالٍ لمعاجزِ الأنبياء المَذكورة في القرآن، والمُفصّلة في التراث اليهودي والمسيحي، أي: مُحاكاة لهذه الخوارقِ والمَعاجزِ، فإن الكراماتِ، تبعاً لذلك، هي مُجرّد نُسخٍ باهتةٍ لهذه النُّسَخ، أي: هي محاكاةٌ من الدرجة الثانية، أو هي ظلالُ الظلال، كما أسلفنا. وإذا كانت المُعجزاتُ يمكن حَصرُها مَهْما حاولَ المُؤرخون وكُتابُ السّيرة توليدَها، فإن الكرامةَ غير قابلةٍ للحَصر، فقد انفتحَ قمقمُ الخُرافةِ، وفاضتْ أوديةُ المَعاجزِ، وطمّ الوادِي على القرى. ورأى المنصوري أن هذا الخطابُ المَنقبيّ يعد ضرباً أساسياً من ضُروبِ الكتابةِ الصوفية، على الرغم من تنوُّعها الشديدِ، في أقسامٍ أساسيّةٍ ثلاثة، وهي: الكتابةُ النظرية، والكتابةُ الإبداعية، ثم الكتابةُ المَنقبيّة التاريخية. وقال "سَجّلنا بخصُوصِ الخطابِ المَنقبي أنه يمثلُ على مُستوى الكم القطاعَ الأهمَّ ضمنَ دائرةِ التأليفِ الصّوفي، إلا أنه على مُستوى النّوع يُعدّ القطاعَ الأضعفَ في الكتابةِ الصّوفية، لما حبلَ به هذا الخطابُ من ضَعفِ التّحقيق، وقصُورِ المَنهج، وطلاقِ العقلِ والتاريخ، وذلك عبرَ ما أنتجَهُ من أطنانِ الخوارقِ والكرامات، وأنماط من المواقفِ والسُّلوكاتِ الشائهة، عَلاوةً على مظاهرِ التقديسِ والتأليه للأشخاص... إلخ. بل إن الخصُومَة التي واجهتِ التصوُّفَ عبر تاريخِهِ الطويلِ، غالباً ما دخلتْ عليه من مَدخلِ هذا الخطابِ". وأكد أن "إصلاحَ الخطابِ الصّوفي، يجبُ أن يبدأ من إصلاحِ الخطابِ المَنقبيّ، خاصة على مُستويين: المُستوى الأوّلُ: يتمثلُ في نقضِ مَنطقِ الكرامةِ من جهة، لما تمثلهُ من افتئاتٍ على قواعدِ العقلِ وقوانينِ الطبيعةِ من جهة، وتفكيكِ البِنْيةِ المَارقةِ بنيةِ الشيخِ والمُريد، بكل ما أنتجتهُ من قيمِ الخضُوع والإذعانِ والتسليمِ، وتعطيلِ النّقدِ، وتشويهِ الحسِّ السّليم من جهةٍ ثانية. أما المُستوى الثاني: فيتجَلى في كتابةِ تاريخٍ حقيقيّ للتصوفِ ورجالاتهِ، بَعيداً عن الغُلوِّ، والتنميطِ، واستعادةِ النماذج الجاهزة، وصناعةِ المُثل الجَامدة، وكل ما يُؤدّي إلى طلاقِ التاريخ، أي: كتابة تاريخٍ حيٍّ ينضحُ بالحياةِ، ولا يُحنّطُ الأمواتَ. ولا شكَّ في أنَّ المُصَالحةَ مع التاريخِ تبدأ بإقرارِ مَبدأ التاريخية ذاتِه، أي: الاعتراف بقهرِ الزّمان وفعلهِ في صيَاغة التصوُّراتِ، والأفكارِ، والمواقفِ، ذلك أن إنكارَ دورِ التاريخ هو خروجٌ من دائرةِ الفعلِ التاريخي". ولفت المنصوري إلى أن خطابُ المناقبِ يقدم نفسَهُ باعتبارهِ خِطاباً تاريخياً، يَنقلُ لنا حقائقَ صادقةً، ووقائعَ مَوضوعيّة، بعبارةٍ أخرى: يُصِرُّ خطابُ المناقبِ على كونهِ لا يقولُ سِوَى الحقيقة، وأنّهُ لا ينقلُ سوى الواقعِ الحَيّ. إلا أن هذا الزعمَ لا يَصمُدُ أمامَ البحثِ والتحليلِ، إذ العَلاقةُ بين خطابِ المَناقبِ وبين التاريخ تطرحُ مَجمُوعةً من الإشكالاتِ، ذلك أن هذا الخطابَ من جهةٍ يَحكي لنا سيرةً مثاليةً نموذجيّة مُصفّاة، لا تعكسُ الحياة بزخَمِها، واضطرابها، وصراعاتِها، إنها تبني النموذج المُبرّأ من الشّوائبِ والأعراض، وهذه المَسلكيّة لا علاقةَ لها بالتاريخ من قريبٍ أو من بعيد. وأوضح المنصوري أنه رَصَد بعضَ مظاهرِ اللاتاريخ في هذا الخطاب، من خلالِ ملامحَ ثلاثة "المَلمحُ الأولُ عبر مُناقشتنا لما أسميناهُ بـ "التاريخ الأفقي"، ونعني به أن خطابَ المناقبِ عبرَ اعتمادِهِ حَصراً على جنسِ التّراجم، لم يستطعْ أن يَلمسَ التطوّرَ والتغيُّرَ في الفِكر الصّوفي؛ لأن التراجمَ تقومُ على مبدأ التجاوُر والتماثل، بحيث نقفُ على لوحاتٍ ترجميةٍ سَاكنةٍ راكدةٍ، لا أثرَ فيها لفعلِ الزّمن، أي: لا أثرَ فيها لفعلِ التاريخ. أما المَلمحُ الثاني فتحت عنوان: "تصَوّف أم تصوفات"، فقد ناقشنا من خِلالهِ إرادةَ التوحيدِ لدى الصوفية، بردّ التنوُّع إلى الوحدة، والاختلافِ إلى الائتلاف، أي: رد كل التياراتِ والمشاربِ الصوفية على اختلافِها وتناقضِها أحياناً إلى حقيقةٍ واحدةٍ بسيطةٍ، والهدفُ من ذلك توحيدُ الصفِّ الدّاخليِّ، ومُواجهَةُ خصُوم التصَوُّف، الذين يَطعَنُون فيه من خلالِ بعضِ التجارب القلقةِ التي أثارتِ الكثير من الانتقادِ واللغطِ، وصلتْ إلى حدِّ تدخلِ السُّلطةِ. أما المَلمحُ الثالثُ فقد وسَمناهُ بـ "تاريخ التمثلات"، ونقصِدُ به التأريخَ للتصوُّفِ، والترجمَة لأعلامِهِ، ليس من خلالِ تاريخيّتِهِ الخاصّة، بل من خلال تمثلات المُتأخّرين للأعلام السّابقين، وقد نتجَ عن هَذا تداخُلُ المَراحلِ التاريخيّةِ في التصوُّفِ تداخُلاً ضاعتْ معَهُ الحُدودُ بين الأطوارِ التاريخيّةِ المُختلفةِ للمَدارسِ الصّوفية. ولا شك في أن هذه المَلامحِ جَميعاً تستدعِي من المُؤرّخ والباحثِ الكثيرَ من اليَقظةِ والتنَبُّهِ، وهو يتعامَلُ معَ التراجمِ الصّوفيةِ؛ لأنّ طُغْيانَ "المَنقبي" فيها كانَ على حِسابِ "التاريخي". وانتهى المنصوري إلى أن الخطابُ المَنقبيّ يعد مَدخلاً مُناسباً لدراسَةِ تاريخِ الذّهنيّاتِ، والعقلِ الجَمْعي، والمِخيال العام في مراحلَ تاريخيّة محدّدةٍ، فهو وإن كان لا يُعَبّرُ عن مُطلقِ الحقيقةِ التاريخيّةِ بفعلِ مُفارقتِهِ لِمَنطقِ التاريخ والعقل كليهما، غير أنه باعتباره خطاباً يعكسُ طبيعةَ العَقليّة السّائدةِ، والذّهنية العامة لمُجتمع ما. وقال: لقد حاولنا الاستفادَةَ من فُتوحاتِ التّاريخِ الجَديد، خاصّة فيما يتعلقُ بالتاريخِ الاجتماعي الذي يُعَدُّ تاريخُ الذهنيات جُزءاً منه. وقد شَغّلنا مفاهيمَ هذا التاريخ من خِلال نموذجين اثنين: نموذج كتاب "سُلوة الأنفاس" وتأتي أهميّتُهُ من كونهِ يَنتمي إلى مرحلةٍ زمنيّةٍ قريبة، أي: إلى أعتابِ الأزْمنةِ الحَديثة. كما يَعكِسُ الثقافة العالِمةَ في أعلى صُوَرِها، بما يعني أن النموذج يُحقّقُ "مبدأ البرهان الأقوى". وقد وَقفنا على بعضِ التصَوُّرات في هذا الكتابِ التي تُجْلِي طبيعةَ النّظامِ المَعرفي السّائد في أعلى صُوَرِهِ، وتبَيّن حجم الخلل في النّظرِ إلى عِلَلِ التاريخِ، وقوانينِ الطّبيعة. أما إذا عَقدْنا مُقارنةً بين هذه التصوّرات وبين الفتوحاتِ العِلميّةِ الهائلةِ التي تحققتْ في الغربِ القريبِ منا جُغرافياً، والبعيد عنا زمنياً، فإن المُقارنة تسْفِرُ عن عُمقِ الفاجعةِ، وفداحةِ المَأساة. أما النموذجُ الثاني فهو كتاب "دوحة الناشر" لابن عسكر الشفشاوني، وناقشنا من خلالهِ طبيعةَ العَقليّةِ المَغربيّةِ في القرن العاشر الهجري السابع عشر الميلادي، والسّمةُ الأساسيّةُ التي هيمنَتْ على هذه العقليّةِ هي قوّةُ الاعتقادِ في رجالِ التصوف، وأهل الصّلاح، وسِيادةُ ما أسميناه بـ: الرّؤيةِ الكراميّةِ للوُجودِ، إذ تُفَسَّرُ جميعُ الظواهرِ الطبيعية، والأحداثِ التاريخية كافة، ومُطلقُ التحولات الاجتماعية بمنطقِ الكرامة، وقد ناقشنا ذلك من خلال عناوين ثلاثة دالة على طبيعة هذه العقلية، وهي "أرض تنبت الأولياء" و"تعظيم لحد التقديس" و"تاريخ من الكرامات". محمد الحمامصي
مشاركة :