بغداد - تقترب الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق من نهايتها، وعلى الحكومة الآن التعامل مع فصائل مسلحة شيعية تدين بالولاء لطهران وتعتبر المرشد الإيراني على خامنئي قائدا روحيا لها، وترفض هذه الفصائل حل نفسها. في نهاية الشهر الماضي تمكنت قوات "الحشد الشعبي" من الفصائل الشيعية الموالية لإيران من الوصول إلى الحدود العراقية – السورية عبر الموصل عند معبر التنف لتأمينها ومنع المتطرفين من العبور خلالها، ولكن وجود هذه القوات على حدود دولية أثار حساسيات سياسية. في المقابل كانت قوات نظام الرئيس بشار الأسد ومعها فصائل شيعية موالية لإيران تقترب أيضاً من معبر التنف على الحدود في مسعى إيراني لفتح طريق بري، ولكن طائرات "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة تدخلت في اللحظة الأخيرة وألقت منشورات تحذر القوتين من اللقاء عند الحدود. في 11 من الشهر الماضي قال زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي صراحة إن "الموصل وتلعفر ستتحرر وسنصل إلى الحدود مع سورية في الموصل والأنبار بينما يقترب إخوتنا في سوريا من الحدود أيضاً وبهذا سنؤسس البدر الشيعي وليس الهلال الشيعي من قبل قوات الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وحماية أنصار الله (الحوثيين)". وتجنبت الحكومة العراقية التعليق على ما جرى إذ أن الفصائل الشيعية الموالية لإيران لا تأتمر بقرارات الحكومة بل تتبع أوامر إيران، ويبدو أن انتهاء الحرب على الجولة الإسلامية لن تنهي نشاطات الفصائل الشيعية بل ستبدأ مرحلة جديدة من الصراع الإقليمي، ويخشى العراقيون أن يكونوا طرفا فيه. ويقول مسؤول رفيع المستوى قريب من الحكومة إن "الحكومة العراقية في موقف محرج بسبب الفصائل الموالية لإيران، الولايات المتحدة تحدثت مع رئيس الحكومة حيدر العبادي بشكل مباشر حول الموضوع ودعته للسيطرة على هذه الفصائل وإبعادها عن النفوذ الإيراني، ولكن تحقيق ذلك ليس سهلا". وتنقسم الفصائل الشيعية إلى ثلاثة أقسام، التابعة إلى إيران وترتبط دينيا بالمرشد الإيراني علي خامنئي، والتابعة إلى المرجع الشيعي علي السيستاني في النجف، والتابعة إلى الأحزاب الشيعية العراقية التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، و"المجلس الأعلى الإسلامي" بزعامة عمار الحكيم. وتختلف الفصائل التابعة إلى إيران عن غيرها بأنها الأقوى والأكثر تسليحا وتسمى شعبيا باسم "الحشد الولائي" أي الذي يدين بالولاء لنظام ولاية الفقيه في إيران، وهي تعتبر أن العراق وسوريا جبهة واحدة، وتؤكد بان وجودها مستمر بعد القضاء على الدولة الإسلامية. ويبلغ عدد الفصائل الموالية لإيران نحو 20 تشكيلا عسكريا أبرزها منظمة "بدر" و"عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله" و"سرايا الخراساني" و"النجباء" و"كتائب الإمام علي" و"كتائب سيد الشهداء" و"كتائب التيار الرسالي"، و"لواء أسد الله الغالب" و"قوات أبو الفضل العباس". فصيل "سرايا الخراساني" يمثل احد الفصائل التي شكلها القيادي في "الحرس الثوري الإيراني" الجنرال حسن تقوي الذي قتل لاحقا في معارك سامراء ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كانون الأول (ديسمبر) 2014، ويرفع هذا الفصيل صور علي خامنئي على مقراته وعجلاته العسكرية. أبو الحسن العتابي احد أعضاء "سرايا الخراساني" يقول "بصراحة نحن لا نأخذ الأوامر من الحكومة العراقية، وإنما من القائد علي خامنئي، إذا كنا حاربنا داعش في العراق في الأوقات الصعبة قبل سنوات لمنع سقوط بغداد، فان وجودنا مستمر بعد القضاء على هذا التنظيم الإرهابي". ويضيف أن "داعش مجرد حلقة واحدة ضمن سلسلة تحديات قادمة، فالصراع في الشرق الأوسط متواصل ونحن على استعداد للقتال في سورية أو لبنان أو اليمن وأي بلد آخر وضد أي عدو تكفيري إرهابي". حديث العتابي طبق على ارض الواقع منذ الآن، إذ أعلن فصيل "النجباء" بزعامة أكرم الكعبي في آذار (مارس) الماضي عن تشكيل قوة عسكرية باسم "لواء تحرير الجولان"، وأعلن أن هدفه تحرير منطقة الجولان في سوريا ومحاربة إسرائيل، وهو مؤشر إلى أن الفصائل الشيعية باقية حتى بعد القضاء على المتطرفين. ومقترحات رئيس الوزراء حيدر العبادي التي أعلنها خلال زيارته إلى الولايات المتحدة حول مستقبل الفصائل الشيعية عبر ضم من يرغب من المقاتلين إلى الجيش والشرطة، ومن لا يرغب يتم مكافئته وعودته إلى الحياة المدنية، مرفوضة تماما من قبل الفصائل التي تدين للولاء لخامنئي، وفقا للعتابي. على العكس من ذلك فان الفصائل التابعة إلى المرجع الشيعي علي السيستاني وأبرزها "فرقة العباس القتالية" تحترم قرارات الحكومة العراقية وتعمل بالتنسيق مع وزارة الدفاع، ولهذا اختيرت للمشاركة في معركة الموصل إلى جانب قوات الفرقة التاسعة للجيش في الجانب الأيمن من الموصل. "انقلاب على السيستاني" تعود ولادة تشكيلات مسلحة شيعية موالية لإيران إلى عام 2003 الذي شهد أول شرخ ديني في العراق منذ عقود، فالمرجع الأعلى لشيعة العراق السيستاني رفض الضغوط التي مورست عليه من رجال دين إيرانيين لإصدار فتوى دينية لمحاربة القوات الأميركية باعتبارها قوات محتلة، وعندها أنشأت إيران قوات "جيش المهدي" بزعامة رجل الدين الشاب المتحمس في حينه مقتدى الصدر، وتعتبر هذه القوات الأب الروحي للفصائل الشيعية الموالية لإيران، كما يقول رجل الدين حميد الطائي. الطائي الذي يعمل في تدريس المذهب الشيعي في إحدى المدارس الدينية المجاورة لمرقد الإمام علي بن أبي طالب في النجف، يقول إن "الصراع يعود إلى أيام الاحتلال الأميركي، الصدر اختار مقاتلة القوات الأميركية وحصل على ترسانة عسكرية من إيران". ولكن بعدما قرر الصدر تجميد قوات "جيش المهدي" ومن ثم إلغاءها، واختار الابتعاد عن الضغوط الإيرانية، سرعان ما انشق كبار مساعديه وبينهم قيس الخزعلي ليتم تأسيس "عصائب أهل الحق" بدعم من إيران، ومنذ ذلك الحين تكاثرت الفصائل التي أعلنت ولاءها للمرجعية الدينية الإيرانية في مدينة قم بدلا عن النجف خصوصا بعد عام 2014، وفقا للطائي. ويصف الطائي ما جرى بعد فتوى السيستاني بالجهاد المؤقت ضد الدولة الإسلامية "انقلاب من قبل فصائل موالية لإيران استغلت الفتوى لتشكيل عشرات الفصائل المسلحة وتقاتل في جبهات خارج العراق وتسعى للمشاركة في العملية السياسية عبر الانتخابات، وهو ما يرفضه السيستاني بشكل قاطع". وأصل الخلاف بين رجال الدين الشيعة في "النجف" العراقية ورجال الدين الشيعة في مدينة "قم" الإيرانية تاريخي قديم يعود إلى فكرة "ولاية الفقيه"، فالمرجعية الدينية في النجف التي يرأسها السيستاني ترفض فكرة "ولاية الفقيه" وتطالب بفصل الدين عن الدولة وتدعو إلى تأسيس دولة مدنية، بينما تسعى المرجعية الدينية في "قم" بزعامة خامنئي إلى تطبيق فكرة "ولاية الفقيه" في العراق. اليوم أضحت الفصائل الموالية لإيران تتمتع بشعبية كبيرة ونفوذ واسع ليس في جبهات القتال فقط، بل حتى في بغداد والمحافظات الجنوبية، وتمتلك مكاتب كبيرة تشبه إلى حد كبير مراكز الشرطة المناطقية، بل إن قوات الجيش والشرطة غالبا ما تتحاشى الاحتكاك مع هذه الفصائل، ويسعى كبار الضباط إلى كسب ود قادة الفصائل خوفا من المشكلات. والحكومة العراقية أمام تحدٍ كبير في التعامل مع الفصائل المسلحة الموالية لإيران والتي تقاتل خارج الحدود بينما يمنع الدستور العراقي ذلك، وتقول المادة (8) "يلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويسعى لحل النـزاعات بالوسائل السلمية"، ولكن هذه الفصائل تحرج الحكومة أمام المجتمع الدولي، وعليها إيجاد حل لهذه المشكلة الصعبة وإلا فان العراق سيبقى ضمن حلقات الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط.(نقاش)
مشاركة :