تحضر الطبيعة في تجارب الشعراء السعوديين الوجدانية، حضورا يشبه حضورها عند الشعراء الرومانسيين من العرب وغيرهم، فهم يهربون إليها هروبا يجعل وصفها متصلا بالمشاعر، ومتفاعلا مع العواطف، حتى تصير مظاهر الطبيعة انعكاسات للحالات النفسية، وهي حال بدهية عند الشعراء الذين يميلون إلى الخروج على الوصف التقليدي، بوصفه نمطا موضوعيا يتكرر في القصيدة العربية عبر عصورها، ولذا صاروا يلتفتون إلى ذواتهم من خلال الطبيعة، فيصفونها مسقطين عليها حالاتهم النفسية المختلفة. ومن حالات وصف الطبيعة المرتبط بالذات، قصيدة: "مشاهد ممطرة"، للشاعر محمد عابس الشهري، في ديوانه: "ثلاثية اللذة والموت"، حيث يسقط شعور الذات بالاغتراب، على المطر الهاطل على أرض لا تحتفي به، وبشر لا تغتسل به نفوسهم وأرواحهم؛ لأنه ليس لها، وليس لهم، ولذا كانت السحابة النازحة مرغمة على "الإسقاط"، ليتحقق "الإسقاط" الفني بالإرغام؛ لأن للمطر بلادا وبشرا، يختارهما اختيارا، حيث تعرف الأرض قيمته، ويكون سقوطه سببا في الاحتفاء والاستشفاء والحياة. يقول: سحابة حطت ولم تهو النزوح مرغمة ماذا تريد من مدينة تنام عندما يستيقظ المطر!؟ أنوار هذا الشارع المنسي زاد ضوءها، من رهبة؟ أم أن هذا القطر لم يغسل سواها بعد أن عافت القلوب تقبيل المطر؟ - يا رب هذي البيد، في الأنوف من صب الخدر؟ هل تطلبون الغيث – حولا بعد حول – مبهجا، وعندما غنى لكم نمتم؟ أيودع الحياة في القلوب الميتة؟! وهنا، جاءت تفاصيل وصف المطر، خاضعة للوجدان الذي يحن إلى بلاد وبشر يغريهم المطر، فلا ينامون عند هطوله، وكأنه يصف المطر من خلال أصداء المطر، وأثره في النفوس، متعجبا من حال المدينة التي يطلب أهلها الغيث عاما بعد آخر، ثم تموت قلوبهم عند انهمار الحياة؛ لأنها "الحياة" بكل دلالاتها الهامشية، ليست من عادات الجهات التي لا تحتفي بمائها. ويمكن للقارئ أن يلمح في ثنايا الصورة المشهدية الكلية نوعا من الحنين الخفي إلى جهات خصيبة، حياتها مطر، ومواتها جفاف، ودأبها اخضرار. الاستفهام الإنكاري في آخر المقطوعة السابقة، يحمل معاني التعجب، لكنه – في حقيقته – يشي باغتراب الجسد والروح معا، فالناس يطلبون المطر، وينامون عنه، وليست هذه الحال الغريبة على وجدان الشاعر، مماثلة للحال عند سقوط المطر على الجهات التي خلقها الله منه، حتى صارت حياتها هو. وللإيحاء بالحنين الخفي، اعتمد الشاعر على شيء من "المفارقة" الخفية أيضا، على الرغم من أن الصورة الشعرية غير قائمة على "التصوير بالمفارقة"، بمعناه الدقيق، لكن تجاور صور سمعية خفية ماثلة في الاستفهامات المتتابعة، مع صور بصرية واقعية، كازدياد ضوء أنوار الشوارع، رسم مشهدا قاتما لواقع كان ينبغي أن يكون مبهجا، لولا أن السحابة أرغمت على الاغتراب والغربة، كما أرغم عليهما الشاعر، فكانت الإشارات الخفية كلها، ملائمة للحنين على استحياء.
مشاركة :