عرفتُ منصورة عز الدين عام 2012، عندما قرأت روايتها «وراء الفردوس» (القائمة القصيرة للبوكر العربية 2010). جذبتني عوالمها، لغتها، وسردها، وهو ما تأكد عندي عندما قرأتُ روايتها «جبل الزمرد». بحثت عن كتابات أخرى لها، فاهتديتُ إلى قصص متناثرة من مجموعتيها «ضوء مهتز» و «نحو الجنون» منشورة على موقع «الكتابة». مطلع العام الحالي، صدرت رواية «أخيلة الظل» (دار التنوير) التي تمارس فيها منصورة هوايتها باللعب والغوص في الخيال وعوالم الأحلام، وتتوالد فيها الخيالات في شكل لا نهائي، وتحضر فيها الظلال على امتداد صفحات الرواية التي لم تتعدَّ 180 صفحة. هنا تحكي منصورة عن روايتها الأخيرة، مشوارها مع الكتابة، وعملها في الصحافة الثقافية. > في «أخيلة الظل»، يقول آدم لأمه موضحاً لها رغبته في التخلص من ظله: «لا أريده، تخلصي منه، لا أحبه ولا أريده أن يتبعني»، ما يتماهى مع ما قاله لوركا من قبل: «أيها الحطَّاب، اقطع ظلي». هل الظل هنا يرمز إلى الماضي أو يدل إليه؟ - شخصية آدم تخاف من كل شيء حولها. علاقته بالأشياء غريبة، وذاته مسكونة بهواجس كثيرة. فكرة الظل في ما يخص هذه الجملة مرتبطة تماماً بشخصية آدم، وتعبر عنه، ولكن إذا تحدثنا عن فكرة الظل في الرواية ككل سنجد أنها متنوعة ولها صور عدة، يمكن القول أن الظل هو امتداد الإنسان كمرآة من مراياه، كتبتُ في الرواية مثلاً أن: «الظل مرآه يرى الضوء فيها وجهه ممعناً في الغياب». هو أحد انعكاسات الذات، فلكل شخصية أو شعور ظل بل ظلال. قد يكون الظل هو الماضي أيضاً، فشخصياتي - في معظمها - مسكونة بماضيها. «سلمى» مثلاً في رواية «وراء الفردوس» أحرقت الصندوق الذي تركه لها أبوها، في محاولة منها للتخلص من ماضيها، غير أنها تصل في النهاية إلى أن القطيعة مع الماضي مستحيل. > التجريب في الكتابة غاية أم وسيلة؟ - عندما جلست لأكتب «أخيلة الظل» لم أجد طريقة أخرى. أنا هنا لم أحاول التجريب من أجل التجريب، بل وجدت أن هذا القالب هو الأنسب للمضمون الذي أكتبه. العلاقة بين الشكل والمضمون في الرواية، أي رواية، جدلية، يؤثر كلاهما في الآخر، لكن بالأساس أرى أن المضمون ينادي الشكل الملائم له، ومنطق الحكاية يختار بناءها اﻷنسب. يبقى أن ينصت الكاتب إلى ما يهمس به العمل ويسير خلفه. ثم إن التجريب ليس ضمانة في حد ذاته على جودة عمل ما. قد يجرب كاتب على مستوى الشكل في حين يكون المضمون ضعيفاً وتقليدياً. > هناك فقرة في الرواية قد تصلح مدخلًا للتعرف إلى عالمها: «ليس الأمر أنها كانت تتبرأ من أهلها أو لا تحبهم كفاية. كانت فقط مسحورة بتخيل فضاءات أخرى، إمكانات وخبرات تتيحها لها أحلام يقظتها وأكاذيبها»؟ - أرفض اختصار عمل روائي في فقرة أو جملة، غير أن الفقرة التي ذكرتَها تعتبر مدخلاً جيداً إلى عالم الرواية التي تقوم بالأساس على فكرة التخيلات والافتراضات وأحلام اليقظة. > في رواية «جبل الزمرد» عبارة تقول: «الكتابة موت الكلمات» كأنك تتساءلين حول جدوى الكتابة بالأساس في ظل عالم عنيف كالذي نعيش فيه؟ - بدءاً من «جبل الزمرد» وبعدها «أخيلة الظل»، بدأ يتشكل عندي سؤال حول أهمية الكتابة، أو جدواها بالأساس، هذا الانشغال بفكرة الكتابة يسيطر عليَّ في شكل كبير. ثنائية الكتابة في مقابل الشفاهة حاضرة بقوة في «جبل الزمرد»، وهي ثنائية شغلت بال كثيرين من قبل، مثل جاك دريدا في «صيدلية أفلاطون»، وأفلاطون الذي طرح الفكرة في «محاورة فايدروس»، انطلاقاً من قصة اختراع «الإله تحوت» للكتابة في الميثولوجيا الفرعونية ورفض ملك مصر ذلك لاعتقاده أن الكتابة ستنتج النسيان والمعرفة الزائفة، فمن وجهة نظره لا يمكن التذكر بذاكرة مستعارة. لا يوجد رأي نهائي بخصوص التدوين في مقابل الشفاهة في الرواية، بل ثمة صراع بين رؤيتين، الأولى تنتصر لحيوية الكلام واندفاعه في مواجهة صمت الكتابة، والثانية ترتقي بالكتابة إلى مصاف الماورائي. > في «جبل الزمرد» وردت مصادر عدة اعتمدتِ عليها أثناء الكتابة مثل «محاورة فايدروس» لأفلاطون وكتاب منطق الطير لفريد الدين العطار... كيف تفسرين ذلك؟ - في الرواية، تناص مع ألف ليلة وليلة، كما أن هناك اشتباكاً مع «صيدلية أفلاطون» و «محاورة فايدروس» فكان لا بد من الإشارة إلى هذه الأعمال. > لماذا يتكرر في أعمالك التململ من الواقع المباشر، ويبرز دمج الغرائبي بالواقعي؟ - في بداياتي كانت الغرائبية عندي نابعة من فكرة الإيهام أو اللعب مع فكرة الجنون. في «متاهة مريم»، ستجد أن ثمة علاقة بفكرة القرين في التراث الإسلامي لكن في شكل غير مباشر، وفي إطار رواية ما بعد حداثية. في «وراء الفردوس» سيطرت الحالة الغرائبية النابعة من الغيبيات السائدة في الريف. أما «جبل الزمرد» ففيها حضور للعجائبي والأسطوري مع الواقع. > لماذا تكتبين؟ هل تعتقدين أنه لا بد من أسباب منطقية للكتابة؟ - الأجوبة المحتملة كلها عن هذا السؤال تقع في منطقة الكليشيهات، كما أنها تختلف من وقت إلى آخر. لا يمكنني الإجابة عن سؤال مماثل إجابة أرتاح إليها. الكتابة عندي فعل وجود، لا يمكن تخيل حياتي من دونها. لا أنشر كل ما أكتب وهناك نصوص تظل حبيسة الأدراج. الكتابة متطلبة جداً، وفي الغالب لا يكون لها مردود مباشر أو سريع خصوصاً في العالم العربي، لذا الإخلاص لها والاستمرار فيها يكون بدافع الحب والشغف بغض النظر عن حجم التلقي والمقروئية. ماركيز كان يرى أن الكتابة من أكثر المهن فردية وأنا أتفق معه، فالكاتب يقطع المشوار بكامله وحده، هو وحده من يستطيع تطوير أدواته والبحث عن إجابات لأسئلته الفنية. أنا مثلاً أقدر تجربتي نجيب محفوظ ومحمود درويش، لأن كلاً منهما أجاد إدارة موهبته وتطوير نفسه، يصل إلى مستوى ما ثم يتجاوزه، لا يرتكن إلى نجاح حققه في منطقة ما، بل يجرب في منطقة أخرى كاسراً التوقعات ومفضلاً المغامرة على الثبات والسكون. > رواياتك من الحجم الصغير نسبياً. ألم تفكري في كتابة رواية من 600 صفحة مثلاً؟ - لنتفق أولاً على أن حجم الرواية في حد ذاته ليس معياراً لشيء، هناك روايات تقع في 120 صفحة وتجدها مترهلة وفيها حشو كبير ويمكن اختصارها في حجم أقل، في المقابل قد تقرأ رواية 700 صفحة وتجدها مشدودة ولا يمكن اختصارها أو حذف فصل منها. لكن المشكلة تكمن في أن كثيراً من الروايات الضخمة تعاني من الترهل والحشو. هذه ليست قاعدة عامة، لكنها تعبر عن شريحة واسعة. عندما أبدأ الكتابة لا يشغلني حجم العمل بمقدار ما أنشغل بمعايير وأسئلة فنية وجمالية. أثناء كتابة «أخيلة الظل» كنت أعرف منذ البداية أنني أمام رواية قصيرة، وساعدني هذا في المحافظة على إيقاع سريع. متعتي وأنا أكتبها كانت كبيرة، وانتقالي من مرحلة إلى أخرى لم يكن صعباً أو مرهقاً. في «جبل الزمرد» مثلاً اختصرتُ تفاصيل كثيرة تخص شخصيتي «شيرويت» و «إيليا» لأنني لاحظتُ أنها لا تضيف إلى العمل. في مرحلة التحرير أتبع نصيحة وليام فوكنر عندما قال: «Kill your darlings». أحذف الزوائد التي قد تكون جيدة في حد ذاتها وعزيزة عليَّ لكنها قد تصيب العمل بالترهل أو تثقل إيقاعه. في شكل عام أرى أن الكاتب الجيد يُعرف من إجادته الحذف والاستغناء عن كل ما هو زائد، أكثر مما يُعرف بقدرته على الإضافة. > أصدرتِ مجموعتين قصصيتين، «ضوء مهتز» 2001 و «نحو الجنون» 2013... لماذا كان الفاصل الزمني بينهما كبيراً إلى ذلك الحد؟ - لم أمتنع مطلقاً عن كتابة القصة، لكن المسافة بين قصة وأخرى كبيرة. عندما أخرج من رواية وأجد لديَّ فكرة لرواية أخرى، تقل هنا احتمالية كتابة القصص، لذلك أقول أن المسافة الزمنية كبيرة بين قصة وأخرى. لديَّ مشكلة مع القصص القصيرة، حيث كثيراً ما أعود إلى قصة كتبتُها وأجد أنني لا أزال مسكونة بعالمها الذي يبدأ في الاتساع والنمو في مخيلتي، وهناك بالفعل أكثر من قصة أعدتُ الاشتغال عليها، كما أن هناك قصصاً أخرى نشرتُها وحين أعيد قراءتها أشعر بأنها مغوية بمزيد من التخييل على تفاصيلها، لذلك أصبحت أتردد قبل نشر القصص. > كيف تنظرين الآن إلى تأثير عملك في الصحافة في كتابتك الأدبية؟ - عندما أنهيت المرحلة الثانوية، التحقتُ بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، وبدأتُ كتابة القصص القصيرة ونشرها في مجلات ودوريات عدة. عملتُ لفترة قصيرة في قسم العلاقات العامة في إحدى شركات البترول قبل أن أعمل معدة برامج في التلفزيون، غير أن الأمر لم يناسبني، رغم المقابل المادي الجيد. وجدتُ أن هذه الأعمال تأكل وقتاً كثيراً ولا تضيف لي على مستوى الخبرات الشخصية شيئاً. وجدتُ أن العمل الصحافي يناسبني أكثر. كانت «أخبار الأدب» ذات علاقة وثيقة بمجال اهتماماتي ودراستي. بدأتُ العمل وكانت تواجهني صعوبة كبيرة في أن أحتفظ بوقت للقراءة والكتابة. مجموعتي القصصية الأولى «ضوء مهتز»، «لاقت إعجاب الناقد محمود أمين العالم الذي نصحني بترك الصحافة، والتفرغ للكتابة الإبداعية. كان الأمر محيراً، لأني كنت متخوفة فعلاً من أن يشغلني العمل الصحافي عن الكتابة. استشرت الدكتورة أمينة رشيد، فنصحتني بالاستمرار في العمل، كي أظل على اتصال بالواقع وكي أتيح لشخصيتي أن تنمو. الروائية الأميركية جوان ديديون ذكرت مرة أن العمل الصحافي هو ما صقل أسلوبها وعلَّمها الإيجاز، وأظن أن العمل صحافية أو للدقة محررة قسم الكتب ومشرفة على ملحق شهري عن الكتب والنشر، قد أضافَ إلى حساسيتي اللغوية. في آب (أغسطس) 2011، حصلتُ على إجازة من عملي لمدة ثلاث سنوات. كانت من أفضل فترات حياتي على مستوى القراءة والكتابة. تعودتُ خلالها أن تكون الكتابة فعلاً يومياً. نجاح هذه التجربة قد يغريني بتكرارها مستقبلاً لفترة أطول. > لماذا يندر ظهورك في الندوات والفاعليات الثقافية رغم ارتباطها بمجال عملك؟ - وقتي ضيق جداً. أقوم بعملي الصحافي وأمارس الكتابة اليومية والقراءة، فضلاً عن الاهتمام بطفليّ، لذا أستغني عن كل ما يمكنني الاستغناء عنه، كما أن العزلة بالنسبة لي أسلوب حياة. حدث قبل ذلك أن بقيت لمدة شهرين متتاليين لا أخرج من البيت. كان ذلك خلال فترة إجازتي من العمل الصحافي. مذ كنت طفلة اعتدت قضاء معظم وقتي في حجرتي، منغمسة في القراءة والرسم. مع الوقت تعلمتُ الحفاظ على مساحتي الشخصية حتى وسط الآخرين. > عام 2011، رفضتِ عضوية لجنة القصة في المجلس الأعلى المصري للثقافة... لماذا؟ - فوجئت بوضع اسمي في تشكيل جديد لتلك اللجنة من دون استشارتي. السبب الأساسي لرفضي هو الاحتجاج على أحداث مجلس الوزراء ومذبحة محمد محمود قبلَها مباشرةً، كما أن لي تحفظات كثيرة عن دور وزارة الثقافة عموماً وجدوى وجودها وكتبت عن هذا أكثر من مرة في «أخبار الأدب». > تكتبين الآن رواية، فهل يمكن أن تحدثينا عنها؟ - أكتب رواية تدور أحداثها على خلفية التغيرات في مصر خلال السنوات الست الأخيرة. قطعتُ شوطاً كبيراً في كتابتها، وأتمنى أن أنتهي من مسودتها الأولى قريباً. ما يشغلني في هذه الرواية هو السعي إلى تقديم زاوية جديدة للرؤية، فأنا أكتب على خلفية أحداث يعرفها الناس جيداً وما زالت حية في ذاكرتهم، وهذا يمثل تحدياً فنياً وجمالياً بالنسبة لي.
مشاركة :