إيران تستثمر في الأزمة القطرية فتحولها إلى حجرة كأداء ومكاسرة إقليمية متشابكة تحول دون المرور إلى المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/06/20، العدد: 10669، ص(8)] عندما تتحرّك إيران لتسوية قضية خليجيّة خارج منطقة الخليج العربي وتستنفر قوتها الدبلوماسية ممثلة في وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي ينهي اليوم الثلاثاء زيارة إلى ثلاث عواصم مغاربية، وهي الجزائر ونواكشوط وتونس، فهذه قرينة على أنّ الحالة القطرية تمثل عمقا استراتيجيا حقيقيا ورقما سياسيا وازنا في التمثل الإيراني. منذ دخول الأزمة الخليجية أطوارها البكر، اختارت طهران البحث عن عواصم إسلامية وعربية غير خليجية لإخراج المعضلة من بيتها الإقليمي، ولإظهار البون الخليجي في شكل مكاسرة استراتيجية امتداداته خارجة عن حدود المنطقة. تدرك طهران أنّ دخولها للملفات العربية كان من بوابة إخراجها عن الحضن العربي الصغير والكبير، فكما ولجت الفضاء العراقي من ثغرة الاحتلال والتدويل، وكما توسعت في الشام عقب تحوّل سوريا من لاعب إلى ملعب لكافة القوى الإقليمية والدوليّة، تسعى إيران اليوم إلى ترسيخ أقدامها الاقتصادية والجيوسياسيّة في قطر من خلال استثمار مقولة “المقاطعة الخليجية والمساندة الاستراتيجية الخارجيّة”. صحيح أنّ الفاعل الرسمي العربي شبه مغيّب عن الاستحقاقات الإقليمية، وصحيح أيضا أنّ جزءا من المحنة الحاصلة اليوم يعود إلى تشرذم المنتظم الإقليمي وعجزه عن بلورة الوساطات الحقيقية القادرة على إيجاد تسويات تاريخية صادقة بين البلدان الشقيقة. غير أنّ الصحيح أيضا كامن في أنّ الدول الإقليمية، على غرار إيران وتركيا، استثمرت في التباين ووظفّت الغياب العربي لصالحها وحوّلته إلى ذريعة تدخل وتوسع واستيطان ناعم ومباشر للجغرافيا العربية. بالنسبة إلى دوائر اتخاذ القرار الاستراتيجي في طهران، تشكّل الأزمة الخليجية المرحلة الأولى من مشروع الحرب على الإرهاب الذي سينسحب عليها بمقتضى الواقع والحتميّة السياسية. ولئن اتخذت المرحلة الأولى طابع تخليص المنطقة الخليجية من شوائب الإرهاب عبر مجموعة من الشروط الواجب تنفيذها من الدوحة لتنقية الأجواء الخليجية، فإنّ المرحلة الثانية ستمتدّ إلى ضرب مركزية الإرهاب ومحور انتشاره وفق التمثل السعودي والإماراتي والبحرينيّ. ولئن كان الغضب الخليجي القائم منصبا حول سياسات الدوحة المتقاربة مع جماعة الإخوان والمقرّبة لإيران والقريبة من الجماعات الشيعية في البحرين، فإنّ الغيظ الخليجي القادم سيمتد إلى النظام المركزي في إيران، وهي دلالة تسمية العاهل السعودي إيران خلال قمة الرياض برأس الأفعى، وتأكيد ولي ولي العهد محمد بن سلمان بأن الخليج سينقل المعركة إلى الملعب الإيراني. وكما عملت إيران على تأبيد الحرب في اليمن حتّى لا يتفرّغ التحالف العربيّ لحربها، تعمد اليوم إلى رسملة الأزمة الخليجية مع الدوحة، لا فقط لأنّ الأخيرة تقف في منتصف طريق التحالف معها ولكن أيضا لأنّ استجابة قطر للشروط الخليجية ستحوّلها إلى رقم إقليمي إضافي معاد في المكاسرة الآتية. تضع طهران كامل ثقلها الدبلوماسي في الأزمة الخليجية، مراهنة على الدول العربيّة ذات المواقف الرماديّة من المحنة والتي اختارت سياسة النأي بالنفس، وعلى رأسها تونس والجزائر. ولئن كانت الواجهة الإيرانية للزيارة المغاربية كامنة في دفع الحوار وتقوية الحلول الدبلوماسية لحلّ أزمة الخليج، فإنّ الوجهة الحقيقية متمثلة في إيجاد ثغرات في جدار مخرجات “قمة الرياض”، وهو الأمر الذي يفسّر استثناء الرباط من الجولة المغاربية واختيار نواكشوط عليها. وهي بالضبط مقادير الحساب بين الحقل القطري والبيدر الإيرانيّ، فلو كان عنوان الزيارة محددا في الدوحة لكانت الرباط أقرب إلى طهران من نواكشوط التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر. غير أنّ حسابات ظريف متجسّدة في التدليل على أنّ قمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تزعزع الحلفاء ولم تغيّر شيئا من رماديّة دول الحياد المغاربيّ تونس والجزائر وموريتانيا، – وهي من الدول المغاربية التي حضرت قمة الرياض ووافقت على وثيقة إعلان الرياض- وأنّ العلاقات الدبلوماسية بينها وبين طهران مستمرة وفي أبهى صورها ولم تتأثر بالقرارات الصادرة عن الاجتماع العربي الإسلامي الأميركي. بمقتضى هذا الواقع، تستثمر إيران في الأزمة القطريّة فتحوّلها إلى حجرة كأداء ومكاسرة إقليمية متشابكة تحول دون المرور إلى المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب، كما تستثمر أيضا في الرماديّة الدبلوماسية للكثير من العواصم المغاربيّة. ذلك أنّ البون كبير بين مقولة الاستقالة الرسمية التي تبديها بعض الدول من الأزمات الدبلوماسية والاستراتيجية والسياسية الحاصلة في الوطن العربي تحت عنوان “الحياد الإيجابيّ”، وبين الحياد الذي يسمح به فعل المبادرة والوساطة والتجميع بين الفرقاء. الحياد المسموح في القضايا العربية هو التوازن الذي يتطلبه ويفرضه التحرّك الميثاقي والمبدئي لتأصيل فعل المصالحة التاريخيّة، أمّا الرمادية التي تبديها بعض الدول فهي استقالة رسميّة من الواجب القوميّ لا يقدّمها إلا ضعيفو الفعل وقليلو الحيلة ومنعدمو التأثير. ولو استقالت بعض العواصم العربية من موقف اللاموقف، وتبنت رؤية التجميع ومقاربة المصالحة والمسامحة لتغيرت العديد من المعادلات انطلاقا من الصحراء المغربية وجنوب السودان وكردستان العراق، والمعضلة السورية والعراقية واليمنية وإلى غيرها. الحياد نوعان، حياد سلبي يسمح للفاعلين الحقيقيين بالتحرك وباستغلال النكوص الرسمي، وحياد إيجابيّ يسعى إلى الفعل والتغيير والمبادرة لتبديل موازين القوى وفق مصالح الوطن الصغير والكبير. لا تزال دولنا ضمن مقولة الحياد السلبي، ولا تزال الدول الإقليمية الكبرى تستغلّه وتستثمره في تغيير الجغرافيات والسرديات التاريخية. كاتب ومحلل سياسي تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :