لدى غسان سلامة من الذكاء والواقعية ما يضع مهمته كمبعوث دولي جديد لليبيا في مسار واضح، آخذاً في الاعتبار القوى الثلاث الفاعلة على الأرض: المدنيون الليبيون الذين برهنوا عن نزعة وسطية حين حصل «الإخوان» على 25 مقعداً فقط من أصل 188 مقعداً في أول برلمان منتخب بعد الثورة. القوة الثانية هي الميليشيات المسلحة التي غضبت من نتائج الانتخابات فاستولت على العاصمة ومعظم الغرب وخاضت معارك في الشرق مسهّلةً تغلغل «القاعدة» ومن بعدها «داعش». والقوة الثالثة هي التدخُّل الإقليمي والدولي، ومنه قطر وتركيا اللتان تدعمان الميليشيات المتطرفة، والإمارات ومصر اللتان ترغبان بجيش شرعي يسهل للحكم المدني تنفيذ القوانين. كان المأخذ على المبعوثين الدوليين السابقين التأثر بآراء أوروبية حول ليبيا ثبت خطأها منذ التدخُّل المتسرّع في الثورة على القذافي وفتح الأبواب للإرهاب والفوضى، أو التأثر بالقوة الميليشيوية المسيطرة على العاصمة والاستخفاف بالشرق المنصرف إلى الحرب على المسلحين المتطرفين في بنغازي ومدن أخرى. ربما يكون الضغط الخليجي والدولي على قطر لتجفيف منابع الإرهاب، عاملاً مساعداً لغسان سلامة، فـ «الإخوان» الليبيون سيتوقّعون تراجع قطر عن ضخ المال لهم وإمكان دخول حليفتهم الأخرى تركيا في مساومة، فيتأهلون للتخفيف من طلباتهم التعجيزية للمصالحة. لا يحتاج الشعب الليبي نفسه إلى مصالحات بقدر ما تحتاج الميليشيات والشخصيات السياسية الملحقة بها. المصالحة هنا تعني المحافظة على حد أدنى من مصالح القوى المتصارعة، ومع الأسف، لا مجال بعد ذلك لحكم خال من مراعاة قوى الأمر الواقع. هذا ما أثبتته تجارب بلاد خارجة من نزاعات داخلية ذات بعد خارجي، مثل لبنان، الذي يعجز مجتمعه المدني حتى اليوم عن اختراق تحالف المتصارعين السابقين المسيطر على الأرزاق والأعناق. الميليشيات المتطرفة و «القاعدة» و «داعش» طردت مئات آلاف الليبيين من وطنهم بسبب استحالة العيش تحت أحكامها الفوضوية. وفي المقابل لا يزال المجتمع الدولي يمنع تزويد الجيش الوطني الذي يقوده المشير خليفة حفتر بالسلاح، متأثراً بالنظرة الأوروبية المحابية لـ «الإخوان المسلمين» منذ وصل إلى ليبيا برنار هنري ليفي وأسس لانحراف في ثورتها الشعبية ضد القذافي. مصر والإمارات تؤيدان الجيش الوطني الليبي علناً كما تؤيده من دون إعلان دول قريبة من ليبيا وبعيدة منها. لكن الخريطة السياسية والأمنية الغامضة والحافلة بتغيُّرات غير منظورة تتطلب سنداً دولياً واضحاً لغسان سلامة في الخطوات المطلوبة لانتقال ليبيا من فوضى الميليشيات إلى كنف الدولة المدنية. وربما تكون الخطوة الأولى إعادة السماح بتسليح الجيش الذي حقق انتصارات ملموسة على ميليشيات قاعدية وداعشية وإخوانية، بالترافق مع اتفاق بين قائده والحكومة، ولنقل الحكومات، في ليبيا، التي ستختصر لاحقاً في حكومة شرعية واحدة. يبقى أن الخبراء والمتدخّلين يتجاهلون عاملاً مهماً في ليبيا، هو الإنسان، فالشعب الليبي الذي بدا هادئاً وأحياناً خانعاً في ظل معمّر القذافي، انفجر فجأة، وكان إسقاط الديكتاتور إنجازاً يجب عدم تجاهله وعدم احتقاره وأن لا تتركز الأنظار فقط على الميليشيات والقوى التي التحقت بثورة الشعب الجريئة والمفاجئة وعملت وتعمل على مصادرتها. والآن، يأخذ الثوار المدنيون في ليبيا على المجتمع الدولي تقصيره في رؤية المشهد، ويؤكدون وجود عدوّين لبلدهم: بقايا النظام السابق نهجاً وليس بالضرورة كأشخاص، والعدو الثاني هو الإرهاب الإسلاموي، ومن هنا دعوتهم إلى تعاون الجميع، بما في ذلك دول مثل مصر والإمارات، على نقل ليبيا من كونها أرضاً رخوة يفرّخ فيها الإرهاب، إلى بلد مستقرّ يستند إلى جيش وطني قوي وحكومة وفاق مدنية. وعلى الأرجح سيفاجأ غسان سلامة، بعد تفكيك مطالب الميليشيات، بقوة الشعب الليبي الذي حطم الديكتاتورية، وسيفاجأ معه العالم بوجود كيان معتم عليه اسمه «الشعب».
مشاركة :