صادق هدايت.. شقاء المثقف في زمن الديكتاتورية

  • 6/14/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لندن: مها مهركان الحديث حول صادق هدايت بحاجة إل جرأة، ذلك لأن وصف آثاره وفكره وذكر مسلكه وسرته يمثلان مغامرة خطيرة ومسؤولية كبيرة تلقي في قلب كل باحث الرعب من الضياع في آلاف العوالم المثيرة للخوف التي يخلقها هدايت نفسه. وحتى المؤلفات الخمسون التي كتبها عنه وعن آثاره المفكرون والكتاب البارزون لا تقدم عن لغز حياته وآثاره سوى حكاية ناقصة، ابتداء من مؤرخ مثل الدكتور محمد علي كاتوزيان الذي حلل حياة هدايت وموته إلى النقاد الأدبيين مثل الدكتور شميسا والدكتور شريعتمداري اللذين عمدا إل تحليل آثاره، وحسن قائميان الذي أصدر آراء كبار الكتاب الأجانب حول هدايت في كتاب من 300 صفحة، وحتى أعضاء مؤسسة صادق هدايت للجائزة الأدبية، إذ لم يصور كل منهم سوى جانب من هيمنة هدايت الكبيرة على الأدب في إيران. كان صادق هدايت كاتبا ومترجما ومثقفا إيرانيا بارزا من رواد كتابة القصة الحديثة في إران. وقد عد كثير من الباحثين رواية «البومة العمياء» أبرز آثار الأدب القصصي المعاصر في إران. ورغم أن شهرة هدايت تعود إل الكتابة، فإنه ترجم أيضا آثارا لكتاب كبار مثل جان بول سارتر، فرانتس كافكا وأنطوان تشيخوف، كما أن آثاره هو نفسه ترجمت إل 25 لغة. وكان هدايت قد كتب، في سيرة متواضعة ومؤلمة بقلمه قبل ست سنوات من انتحاره في شقته المستأجرة في شارع شامبيونيه بباريس، قائلا: «إني لأشعر بالبهمية إزاء حديثي عن نفسي بالمقدار نفسه الذي أشعر فيه إزاء الإعلام المتأثر بأمركا. ترى، ما جدوى أن يعرف أحد تاريخ ولادتي؟ هذه الإيضاحات تذكرني دوما بسوق الماشية حيث يعرض للبيع بغل عجوز وتنقل للمشتري بصوت عال تفاصيل عن خصاله وعيوبه من أجل جذب هذا المشتري، وفضلا عن ذلك فإن الحدث عن حاتي لا ضم أي ملاحظة بارزة فلس هنالك من حدث لافت للنظر قد وقع فها، كما لم كن لي أي عنوان، ولا أحمل أي شهادة مهمة، ولم أكن أضا تلمذا متمزا في المدرسة، بل عل العكس من ذلك فقد كنت أواجه الإخفاق دائما. وكنت في الدوائر التي عملت فها عضوا غامضا ومجهولا دائما، وكان رؤسائي حانقن عليّ، حث إن استقالاتي كانت تقبل بفرح جنوني كلما قدمتها. وبشكل عام، فإن البئة التي كنت أعش فها كانت تحكم علي بأنني كائن طفلي عدم الجدوى، وربما كانت هذه هي الحققة». وتكاد كل آثاره تكون (كما شهد النص السابق) غير متناغمة مع أفكار عامة الناس، إلا أن حاة هدات وآثاره هي في الحقيقة خلاصة أحوال أكثر أفراد المجتمع الإراني بصرة في السنوات التي تلت فشل الثورة الدستورة وعدم تحقق العدالة والحرة، وانتكاسة التحديث مقابل صعود السلفة. لقد كان هدات، كما ذكر عابدني: «من جل مثقفي عصر رأوا فه تقلبات الثورة الدستورة والطموحات غر الواقعة للمفكرن المطالبن بالحكم الدستوري، وهو جل مضطرب ومرتبك الفكر، رأ كابوس الانحطاط والاضمحلال بأم عنه، جل وجد نفسه عل أعتاب التحول وحافة الأزمة، ومع ذلك كان عمل عل إحداث تغر جدد للحاة». إن الازدواجة في قصص هدات، الذهنة والواقعة، هي تجسد لهذا الانفصام الاجتماعي - الفكري. كان لا يطيق «الحاة المتحجرة المتداولة»، التي تمر كأنها كابوس مرعب»، ولا مل إل «شبه الحداثة الاستبدادة لرضا شاه». وكان ثر في قصصه التساؤلات حول القم المترسخة من خلال السخرة اللاذعة والمدمرة، فاضحا المجتمع الخاضع للديكتاتورة والخرافات من خلال وصفه النقدي، كاشفا عن تآكله الداخلي، معلنا في الوقت نفسه براءته من الناس الذن «تقبلوا هذه البئة الوضعة والمتعصبة». شد هدات في «أغاني الخام» بالشاعر الذي «لم تقبل أبدا التقالد البالة لبئته، بل إنه سخر بمنطق كل ترهاتهم». وهو ما صف بالضبط حال هدات نفسه، الذي عد مثل الخّام من الكتاب الإرانن القلائل الذن «رفضوا وكرهوا، حرفوا، حللت شخصاتهم خطأ، وحققوا شهرة واسعة لكنهم باتوا في النهاية مغمورن ومجهولن». ذكر حسن مرعابدني، الكاتب والباحث الأدبي، أنه، خلال السنوات التي كان فها معظم الكتاب رون الحققة من نافذة بوت الفاحشة الضقة أو كانوا شفقون عل مصر الأمراء عدمي الأصل، في قالب القصص الأخلاقة التارخة المفعمة باللواعج والآهات، كان هدات يوجه سخريته لاذعة عل عامة الجهال وعباد الشهوات، معلنا البراءة منهم، وكأنه رد الانتقام من هؤلاء البشر السعداء الذن لس لهم أي مُثُل ولا تحملون مثل هذا الوضع، دون أن نطقوا بكلمة». وكتب هدات نفسه في «ثلاث قطرات من الدم»، قائلا: «لا وجد أي وجه شبه بننا. فأنا أختلف عنهم اختلاف الأرض عن السماء. إن آهات هؤلاء البشر وصمتهم وشتائمهم وبكاءهم تملأ منامي بالكوابس دوما». إن علاقته بعامة الناس متناقضة ومعقدة كعلاقته مع الأرستقراطن، وكان هو نفسه ينحدر من أسرة متنفذة من سلالة رضا قلي خان، وهو من أشهر الكتاب والشعراء والمؤرخن في القرن التاسع عشر الملادي في إران، لكن هدايت اختار أن ينفصل عن عائلته، وعمل موظفا بسطا في إحدى الدوائر. وعرف في تلك الفترة بنزعته التشاؤمية الانطوائية، منصرفا لكتاباته، كما تعلم اللغة الفرنسة في مدرسة «سان لوس» في إران. وتعرف من خلال قسس في المدرسة عل الأدب العالمي. وفي هذه المدرسة نفسها وجد في نفسه رغبة في تعلم الفلسفة المتافزقة، ثم أصدر بعد ذلك بعض المقالات حول «السحر في إران»، كما أصبح نباتا وألف كتابا حول فوائد النباتة، وبقي نباتا حتى نهاة عمره. وكان ر أن الإنسان إن أراد أن كف عن الحرب، فإن عله أولا أن كف عن قتل الحوانات وأكلها. وفي عام 1926، توجه إل بلجكا مع أول مجموعة من الطلاب المتوجهن إل الخارج للدراسة في فرع الهندسة. ولكنه لم أخذ الدراسة عل محمل الجد واتجه إل الكتابة. وفي تلك السنة، نشر قصة «الموت»، في مجلة «إرانشهر»، التي كانت تصدر في ألمانا، وكتب مقالة بالفرنسة باسم «السحر في إران» في مجلة «له فل دلس». وبعد فترة شعر بالملل والسأم من حالة الجو في تلك المدنة وأوضاعه الدراسة، وأخذ تحن الفرص للذهاب إل بارس التي كانت آنذاك مركز الحضارة الغربة. وأخرا نقل بعد سنة إلى بارس لمواصلة الدراسة. وفي بارس مر بتجربة عاطفة فاشلة تركت تأثرا كبيرا عل آثاره، بحث أصبح الحب حسب النظرة الفرودة شكل أحد أهم مضامن آثاره. كتب في وصف الحب في قصة «آفرنكان» (نسك من كتاب «زند» المقدس) قائلا: «الحب مثل أغنة بعدة، نغمة خلابة وساحرة ترنم بها الإنسان القبح والدمم. وعلنا أن لا نتبعه ولا ننظر إله من الأمام، لأن ذلك سوف قضي عل لذة الترنم به، كما جب أن لا نتخطى عتبة الحب، ونكتفي بهذا القدر». وهكذا ازدادت النزعة الباطنة لد هدات شئا فشئا، وأخذ هاجس الموت سطر عل وجوده. وإثر الكآبة التي أصب بها، والتي كانت تتعمق وما بعد آخر، أقدم في عام 1928 عل الانتحار لأول مرة، لكنه نجا من الموت. وقد وصف هذه الحادثة في «مذكرات مجنون». وبعد أن جرب لحظات مواجهة الموت، وظل عاني منها حتى نهاة عمره، كان دفع شخصات أعماله هي أضا إلى أن تمارس هذه التجربة، كي تشهد عل خواء الحاة وعبثتها. وفي عام 1930، عاد إل طهران دون أن نهي دراسته، وجرى توظفه في المصرف الوطني الإراني. ولكنه لم كن شعر بالرضا من عمله، وكانت رسائله في هذه الفترة مفعمة بالشكوى من الدنا وحالها، رغم أن عمله في المصرف أد إلى صداقته المباركة مع حسن قائمان الذي كرس نفسه بعد وفاة هدات للتعرف به وبآثاره. وخلال السنوات التالة تولى عدة مناصب في المدرة العامة للتجارة، وزارة الخارجة، الشركة العامة المساهمة للبناء، مدرة الموسقى في البلاد، وجامعة الفنون الجملة. رغم أنه لم بقَ في كل منصب أكثر من عام، وكان قدم استقالته كل عام مرة تقربا. أثناء ذلك، نشر آثاره الواحد تلو الآخر. وتعد السنوات من 1931 إلى 1935 فترة غزرة بالإنتاج بالنسبة إلى هدات حين نشر العدد من الآثار البحثة والقصصة. وخلال هذه السنوات نفسها أد كتابه القم «وغ وغ ساهاب» (لعبة خرج منها صوت عندما تم تدورها)، الذي كتبه منتقدا حالة التردي الثقافي والأدبي في تلك الفترة، إل استدعائه لمدرة الأمن في طهران، وبذلك أصبح صادق هدات من أوائل الذن منعوا من الكتابة في تارخ الرقابة في إران. سافر هدات عام 1936 إلى الهند بحجة تعلم اللغة البهلوة، وأصدر هناك أكثر آثاره شهرة «البومة العماء»، في 50 نسخة. كتب هدات في أحد المواضع: «كانت اللغة البهلوة ذرعة. والآن فإن الجمع أخذ طبلون لي؛ بأنني قد ذهبت إل الهند لأدرس البهلوة! كنت أرد الفرار. لقد وقع لي حادث فذهبت إلى الهند وتذرعت بالبهلوة.. كنت قد ذهبت لأطبع (البومة العماء)، ولكن لم تسر لي ذلك، و(بعد التي واللتا) تمكنت من استنساخ 50 نسخة.. ثم إنني عندما كنت في طرقي إلى الهند كنت أخش أن صادروها مني في الجمارك لأخسر كل شيء». وقد ترجم في الهند «سرة أردشر بابكان» من البهلوة إل الفارسة. ثم عاد إل إران، وشكل في عام 1934 مع مجموعة من كتاب إران الشباب الذن كانوا قد درسوا في أوروبا جمعة «الربعة» الأدبة المتجددة، التي كانت قد وقفت موقفا معارضا غر مباشر إزاء جمعة «السبعة»، التي كانت تضم الأدباء السلفيين الحكومن. وقد مارست هذه المجموعة النشاطات الأدبة والثقافة ونشرت بعض الآثار بشكل مشترك. قول مجتب منوي، الأدب المؤرخ والكاتب الإراني الشهر حول هذا العهد: «لقد كنا نحارب بقوة ونسعى من أجل الحصول عل الحرة، وكان صادق هدات مركز دائرتنا». وبعد سنوات الأربعنات، وإثر احتلال الحلفاء لإران وانفتاح الأجواء الساسة، تعاون هدات مع بعض أعضاء حزب توده، ونشر بعض المقالات في صحفة «مردم» (الشعب)، التي كانت اللسان الناطق لحزب توده، رغم أن أمله خاب في هذا الحزب بعد نهاة الحرب واندلاع مشكلتي أذربجان وكردستان، فازداد تشاؤمه من الأوضاع أكثر من ذي قبل. وكانت آخر أعماله «توب مرواري» (مدفع اللؤلؤ) (نصب في ساحة أرك بطهران، كانت النساء غر المتزوجات قصدنه لقراءة الحظ)، وقد صدر هذا الكتاب بعد موته، كما ترجم رواية «المسخ» لكافكا التي نشرها في مجلة «سخن». سافر هدات إل فرنسا عام 1950، بعد أن بلغ الـ48، وبعد أن حصل عل التأشيرة بفعل تقرر طبي. وانتحر أخيرا بالغاز في التاسع من أبريل (نيسان) 1951. وكان قد أتلف قبل بضعة أيام من انتحاره كثرا من قصصه غر المطبوعة. يذكر محمد علي جمال زاده، الكاتب والمترجم الإراني الشهر عنه: «لم كن صادق هدات تقبل كثرا من قيم الناس، وكانت تساوره في داخله تساؤلات حول الخلق كانت قد افترست روحه، عل حد قوله». وفي الحققة فإن هدات مثل مثقف العهد الديكتاتوري الأسود، المثقف الذي حرم من أي وجود اجتماعي مفيد، إنه كما فقد إيمانه بقدرة الكاتب عل التأثر وبالتالي التغيير. وكان علن احتجاجه واعتراضه على مظاهر الفوضى التي كان الجمع قد اعتادها، ولم تكن شخصيته المنفتحة الفكر لتتحمل الأمية والفقر والجهل السائد، ولذلك فقد اعتزل، معانيا من الضاع الروحي الكبير.. ثم جاء الانتحار، مثله مثل بعض الوجوه الأدبة الشهرة التي أقدمت عل الانتحار في ذلك العهد، كرضا كمال، وشهرزاد جهانكر جللي. وللأسف، كثر من آثار هدات لا يزال محظورا في إران في الوقت الحالي، كما توقف طبع معظم آثاره المسموح لها بالنشر. * خدمة «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي)

مشاركة :