المرأة والسلطة والوقف: السلطانة كوسِم نموذجاً

  • 6/24/2017
  • 00:00
  • 25
  • 0
  • 0
news-picture

في السنوات الأخيرة أصبحت المسلسلات التركية تفرض نفسها على المشاهدين في المجال العثماني السابق الممتد من البوسنة إلى اليمن ومن العراق إلى المغرب، مع الأخذ في الاعتبار تنوّع هذه المسلسلات ما بين التاريخي/ العثماني وما بين الاجتماعي المعاصر الذي يجمع قيم الريف المحافظ وقيم المدينة المتحررة. ومن هذه المواضيع التي حازت على اهتمام المشاهدين العرب كان «حريم السلطان» (مع أن اسمه الأصلي غير ذلك) سواء في قسمه الأول المتعلق بالسلطانة خرّم أو قسمه الثاني المتعلق بالسلطانة كوسِم. ويبدو أن هذا الموضوع (المرأة والسلطة) أخذ يلهم الجيل الجديد من المؤرخات التركيات، حيث أصدرت د. أوزم كومرولار في 2015 سيرة حياة السلطانة كوسِم التي تحكمت بالفعل في مصير الدولة العثمانية خلال نصف قرن تقريباً (1605-1651) من خلال نفوذها على زوجها وأولادها وأحفادها. وقد ترجم هذا الكتاب في 2016 إلى البولونية بينما صدرت ترجمته العربية في بيروت قبل أسابيع على يد مهتاب محمد. تتلمذت د. كومرولار على يد المؤرخ خليل إينالجيك، وهو الذي كان خصّص للسلطانة كوسِم حيزاً لا بأس به في المجلد الثاني من كتابه المرجعي عن الدولة العثمانية، وشجع تلميذته على المضي قدماً في تأليف كتابها عن سيرة السلطانة كوسِم. وبالمقارنة بين أغلفة الطبعات الثلاث نجد أن العنوان الفرعي قد بقي (السلطة والطموح والمؤامرات)، ولكن الطبعة العربية أخطأت بوضع صورة السلطانة خُرّم زوج السلطان سليمان القانوني على الغلاف، وهي الصورة التي تصدرت غلاف كتابي «وقف المرأة في عام الإسلام: مقاربة جديدة لمكانة المرأة في المجتمعات المسلمة» الذي صدر في بيروت عام 2014 مع توضيح عن صاحبة الصورة، عوضاً عن صورة السلطانة كوسِم. وقد تصادف مع سفري إلى إسطنبول قبل أيام أنني وجدت ضمن الجرائد الموجودة في الطائرة مقالة للكاتب التركي خاقان أرسلانبنزر في صحيفة «دايلي صباح» (عدد 10/11/2017) بعنوان «السلطانة كوسِم أقوى امرأة في البلاط العثماني». أهم ما في هذا المقال النقدي ملاحظتان. الأولى تتندر على أن المسلسلات التركية أصبحت مصدر الإثارة في هذا الجانب من التاريخ العثماني، حيث تركز على ما يثير المشاهد، خصوصاً في النسخة العربية التي أصبح عنوانها «حريم السلطان»، من فخامة البلاط وجمال النساء والملابس والمؤامرات الخ. وأما الملاحظة الثانية فهي أن المسلسل أو الكتاب عن السلطانة كوسم وغيرها لا يحتاج إلى خيال لإثارة المشاهد أو القارئ لأن نظام الحريم في الدولة العثمانية كان يتكفل بذلك. فقد كانت تُعرض على السلطان العثماني أجمل الجاريات من بلاد القوقاز أو من بلاد البلقان ومن تعجب السلطان وتنجب له ولداً ترتفع مكانتها فوراً من جارية إلى محظية أو خاصكي سلطان. ونظراً لأن السلطان عند وفاته تكون له أكثر من زوجة وأكثر من أم لأولاده فإن والدة السلطان الجديد هي التي تبقى في قصر طوب قابي مع لقب «السلطانة الوالدة» وترحّل الزوجات الأخريات إلى القصر القديم أو «قصر الدموع»، الذي سمي بذلك لأن زوجات السلاطين يستذكرن أيام مجدهن في قصر طوب قابي. ومن هنا فإن هذا النظام كان يدفع زوجات السلاطين إلى التنافس والمكائد لكي يكون ابن كل واحدة منهن ولي العهد أو السلطان القادم حتى تحافظ على مكانتها في القصر. ولكن هذا كان يقود لاحقاً إلى التنافس والصراع على مشاعر السلطان بين والدة السلطان وزوجة السلطان ويتعقد الصراع أحياناً مع وجود السلطانة الجدة والسلطانة الوالدة في القصر حول ولي العهد. مع الجارية انستاسيا، التي تختلف المصادر في أصلها ولكن تتفق على جمالها، التي قدّمها والي البوسنة للسلطان أحمد الأول (1603-1617م)، كان الصراع في القصر محتدماً بين السلطانة الجدة صفية والسلطانة الوالدة خندان، وهو الذي انتهى لمصلحة الثانية في 1604م، أي في الوقت الذي جاءت فيه انستاسيا إلى القصر بعد أن أسلمت ومُنحت اسم مه بيكر (وجه القمر). ومع وفاة السلطانة الوالدة في 1605م فُسح المجال لبروز زوجة السلطان التي جذبه جمالها وأطلق عليها اسم كوسِم. ولكن ما يميز كوسِم لم يكن جمالها بل ذكاؤها وإدراكها للعبة القصر والسياسة في الدولة العثمانية، بالإضافة إلى الظروف التي خدمتها. فقد مات زوجها شاباً في السابعة والعشرين ولذلك كان من المستحيل أن يكون طفلها سلطاناً، كما أن زوجها قبل وفاته غيّر قانون وراثة العرش ليسمح لأكبر أفراد آل عثمان بوراثة العرش، وبذلك آل العرش إلى مصطفى الأول الذي عزل بعد عدة شهور (1717-1618م) بسبب عدم اتزانه ليفسح المجال بذلك لعثمان الثاني (ابن السلطان أحمد من زوجة أخرى) أن يتولى العرش خلال 1618- 1622م. ولكن هذه الفترة شهدت هزائم عسكرية للدولة العثمانية مما دفع السلطان للتفكير في إصلاح الجيش الانكشاري فانتفض ضده الانكشارية وقتلوه. وفي هذه الفوضى أعيد مصطفى الأول لعدة شهور أخرى (1622-1623م) ليعزل بعدها بتهمة الجنون مما فسح المجال لابن كوسم أن يصل إلى العرش باسم مراد الرابع (1623-1640م)، وهو ما كان بداية لعبة السياسة بين السلطانة كوسم والصدور العظام وشيوخ الإسلام والانكشارية. كان من مصلحة كوسِم أن يتولى ابنها الطفل مراد العرش لكي تكون هي الوصية أو «نائبة السلطان» حتى يبلغ سن الرشد في 1623م. وحتى بعد أن تولى السلطة بقي نفوذ السلطانة الوالدة كوسِم قوياً في السنوات الباقية من حياته التي لم تستمر كثيراً إذ أنه توفي في السابعة والعشرين. ونظراً لأنه لم يخلف ولداً فقد آل العرش إلى أخيه إبراهيم الذي كان حبيس القصر بعد أن شاهد مقتل إخوته، ولذلك ظن حين قدموا لإخباره بتولي العرش أنهم يريدون مقتله ولم يصدق ذلك إلا بعد أن جاءت أمه كوسم. وبسبب ذلك اتسمت شخصيته بالضعف وهو ما كان يناسب السلطانة الوالدة كوسم. وحتى حين حاول الصدر الأعظم مصطفى باشا وضع حد لتدخلها في الحكم قامت بتحريض ولدها على قتله. ولكن زعماء الانكشارية ثاروا عليه وتمكنوا من قتله أيضاً أسوة بأخيه عثمان الثاني. ومع مقتله تولى العرش ابنه محمد الرابع الذي كان في السابعة من عمره، وهو ما فسح المجال لكوسم للاحتفاظ بنفوذها مع لقب جديد هو «السلطانة الجدّة». ولكن في هذه الحالة وجدت نفسها في صدام مصالح مع أمه السلطانة الوالدة خديجة ترخان، التي تولت الوصاية أو نيابة السلطنة، وانتهى هذا الصدام بين الامرأتين إلى ترتيب مقتل السلطانة الجدة كوسم في 1651م لتنفرد السلطانة الوالدة خديجة بإدارة أمور الدولة. في هذه الظروف، كما يقول الكاتب خاقان أرسلان بنزر، لا يحتاج كاتب السيناريو إلى خيال حتى ينجز مسلسلاً مشوقاً لأن طبيعة النظام العثماني كما مرّ معنا يسمح بتحويل كل جزء منه إلى مسلسل درامي. ولكن هناك أمر لا بد من الإشارة إليه ألا وهو بروز الوقف في الفترة التي برزت فيها النساء المذكورات. وإذا أخذنا السلطانة كوسِم نموذجاً نجد لها المنشآت الكثيرة في إسطنبول وضواحيها (الجامع الأزرق واستراحة القوافل الخ) والأوقاف الأخرى التي كانت تخصّص لتقديم الوجبات المجانية للمحتاجين وتمكين غير القادرين على الحج ودفع ديون المسجونين وغير ذلك، مما جعل لها شعبية بين الناس. ومن هنا لا يبدو مستغرباً، كما يقال، أن سكان إسطنبول حزنوا عليها وأقاموا الحداد مدة ثلاثة أيام. في هذه الحالة تثبت الأطروحة القائلة بأن الوقف يتحول إلى أداة سلطة يشبه ما كان عند المماليك في مصر. فممارسة السلطانة كوسِم لمثل هذا النفوذ من خلال زوجها وولديها ثم حفيدها (1605-1651م) كان غير مألوف في التقاليد العثمانية، حيث شاركت في الحكم بالتعاون مع مراكز القوة (الصدور العظام وشيوخ الإسلام وزعماء الانكشارية)، ولذلك كان الوقف يساعد في منحها شعبية من خلال الخدمات المجانية التي يقدمها، ويكرس بذلك مكانتها في المجتمع. ولذلك يصح أن تكون السلطانة كوسِم نموذجاً لمقاربة مكانة المرأة في المجتمع من خلال الوقف الذي يعكس موقعها في السلطة.

مشاركة :