لا تخرج الحالة الدينية السائدة اليوم بكل أبعادها وأخطارها ومتوالياتها عن السياسات الرسمية لعالم العرب خصوصاً والمسلمين عموماً، ويتشكل اليوم في المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية خطاب ديني ليس مختلفاً عن خطاب الجماعات التي تحاربها السلطات الرسمية. ثمة مبالغة في الدور الديني للدولة، وفي إضفاء القداسة والدينية على قضايا ومفاهيم تربوية وأخلاقية ووطنية واقتصادية وتاريخية، ولم يعد سهلاً تطويرها أو مراجعتها، وتضع الدول والمجتمعات نفسها ضد ذاتها، وتلحق ضرراً بمصالحها ومواقفها أكثر مما تفعله الجماعات المتطرفة. وفي الوقت نفسه، فإن الحالة الدينية الناشئة تعرض سيادة الدول والتزاماتها نحو المواطنين والمقيمين والمواثيق والقيم الدولية والإنسانية للخطر والتهديد. ولا يبدو على رغم ذلك أن الدول اكتسبت مصداقية دينية أو حققت انسجاماً مع اتجاه الغالبية المجتمعية المتدينة والمحافظة، عدا ما صار من نافلة القول عن حالة الكراهية الدينية التي جعلت من العرب على اختلاف اتجاهاتهم ومواقفهم عبئاً على العالم. وإذا كانت السياسات الدينية القائمة متقبلة في مرحلة سابقة، فإنها لم تعد كذلك في ظل تطور الحالة الدينية إلى كارثة عربية وعالمية، ولم يعد ثمة مناص من مواجهة الذات وإعادة بناء الخطاب الديني على النحو الذي يميز بوضوح بين الديني وغير الديني والثابت والمتحول والمقدس وغير المقدس، وأن يصحح علاقة الدولة بمواطنيها وبالمجتمعات وبالعالم المتداخل بعضه ببعض. وعلى رغم الإقرار بالعقبات والآلام المصاحبة للسياسات الجديدة، لكنها تظل أقل ألماً وخسائراً من استمرار الحالة القائمة. لكن الأكثر صعوبة أننا لا نملك خطاباً دينياً بديلاً! والحال أن الإصلاحيين والمعتدلين يملكون وضوحاً في الأهداف ورؤية النهايات المأمولة، لكنهم لا يملكون إجابة عملية عن السؤال البديهي والأساسي «كيف؟» وربما لا يكون ثمة خيار عملي بديل سوى الانسحاب الرسمي من الشأن الديني وتعويمه وتركه للأفراد والمجتمعات على رغم صحة الاعتراض على ذلك باحتمالات الفوضى والتطرف، لكن التورط في الدور الديني للدولة لم يكن أفضل حالاً، وتستطيع السلطات على أي حال في فترة زمنية معقولة أن تشجع حراكاً مجتمعياً مستقلاً عنها لخطاب ديني عقلاني وفردي يلائم المتدينين ويخدم السلم الاجتماعي وأهداف الدول والمجتمعات والأفراد. إن القلق من مشاركة الأفراد والمجتمعات في السياسات العامة التي كانت تحتكرها الدولة لا يقتصر على الشأن الديني، لكنه يمتد أيضاً إلى مجالات أخرى كثيرة سبقنا العالم في إسنادها إلى المجتمعات والأسواق، مثل الثقافة والفنون والرياضة وكثير من الخدمات والسلع الأساسية، وكما تحولت الدول باتجاه خصخصة كثير من الخدمات والسلع بما في ذلك من آلام وتضحيات، فإنها تواجه الخيار نفسه اليوم في الشأن الديني والثقافي، بل إنه لم يعد معقولاً أن تتخلى الدولة عن كثير من أدوارها الاقتصادية والخدماتية وتواصل تأميم الدين والثقافة، ذلك أن مصداقية دورها الديني والثقافي كانت مستمدة من ولايتها الشاملة على احتياجات المواطنين وأولوياتهم. أما وقد تركت للمجتمعات والأسواق أن تنظم بنفسها خدماتها واحتياجاتها فقد فقدت تلقائياً شرعيتها الاجتماعية والدينية، وأصبحت في حاجة لرواية جديدة لشرعية وسلطتها مستمدة من سيادة القانون والحريات والعدالة والمشاركة. وفي ذلك لن تقتصر إنجازات الدول على إنشاء فرص راجحة لتصحيح الحالة الدينية ووضعها في سياق الإصلاح والتقدم؛ لكنها أيضاً تنسجم مع الاتجاهات العالمية المعاصرة في الشراكة مع المجتمعات وتقليل دور الدولة في ما يمكن للمجتمعات أن تؤديه. وينسجم أيضاً مع فكرة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والرابط القانوني بين المواطنين وفي تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وعلى أي حال فلن تستطيع دول العرب أن تواصل حالتها الشاذة عن الاتجاه العالمي، فهي تخرج نفسها من مدار العالم، وتكاد تفلت من الكون نفسه ليبتلعها المجهول والفناء. * كاتب أردني.
مشاركة :