يمتلك ناصر محمود ابن الواحات التي تقع على بعد 500 كيلومتر غرب القاهرة، سيارة دفع رباعي مجهزة للسياح الأجانب يبلغ ثمنها نحو خمسة وثلاثين ألف دولار. اشتراها في ذروة نشاط رحلات السفاري في صحراء مصر الغربية في عام 2007، لكن الرياح، كما يقول، تأتي أحياناً بعكس ما تأمل. ويستخدمها حالياً في نقل الخضراوات من حقل والده إلى السوق. وهذه مهنة لا تناسبها، حيث كانت في السنوات الماضية تدر ألوف الدولارات من نقل سياح البراري.وتسببت الفوضى الأمنية التي أعقبت ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي»، في تراجع أعداد سياح السفاري في شمال أفريقيا، وكان غالبيتهم من أوروبا. وحين وصل السائح البلجيكي، ستيفان فيليب، إلى مصر، اكتفى بزيارة الأهرامات. لكنه ما زال يعيش على صور وذكريات رحلاته السابقة في منطقة الصحراء البيضاء في غرب مصر، وفي توزر وجنوب بن قردان بتونس. ويقول مرافقه وهو سائح إنجليزي يدعى جون: «منذ عام 2012 ونحن نفكر في العودة لزيارة جبل واو الناموس في جنوب ليبيا، بعد أن زرناه معاً في 2007».ومع تنامي خطر «داعش» في عدة بلدان في شمال أفريقيا، أصبحت زيارة الصحراء مثل الحلم، كما يقول فيليب. وبينما لم يتوقف الاحتراب الأهلي في ليبيا، تعاني مناطق الصحراء التونسية، خصوصاً تلك القريبة من ليبيا، من اضطرابات، ناهيك بحوادث إرهابية سبق أن وصلت إلى مناطق سياحية على البحر التونسي. وفي مصر، توقف تسيير رحلات السفاري في صحراء غرب القاهرة، أخيرا، ليزيد من مأساة قطاع السياحة الذي يعاني أصلاً من خسائر بمليارات الدولارات منذ عام 2011.وتحولت صفحات التواصل على الإنترنت، التي تضم منظمين لرحلات سفاري من أوروبا إلى مصر وليبيا وتونس، من الحديث عن خطط المستقبل وجني الأرباح، إلى شكاوى من الكساد والإفلاس، إلى جانب محاولات لبيع ما لديهم من أدوات السفاري، مثل السيارات وأكياس النوم والمناظير المقربة وأنظمة التتبع وغيرها.ويقول إمام فوزي، أحد منظمي السفاري في مدينة الباويطي على بعد نحو 400 كيلومتر غرب القاهرة: «توجد نحو ألف سيارة دفع رباعي من مستويات مختلفة أصبحت دون عمل في هذه المنطقة من الواحات. أصبنا بخسائر كبيرة».ومن مقاصد سياح الصحارى، كهوف فيها رسوم يعود تاريخها لأكثر من عشرة آلاف سنة، إلى جانب تشكيلات رملية بألوان متدرجة بين أسود وأبيض وأصفر، وكذلك بقايا لصخور بركانية، وأخرى يُعتقد أنها من نيازك وصلت من كواكب أخرى. هذا إلى جانب الاستمتاع بمشهد النجوم ليلاً، حيث يتحول الفضاء إلى ما يشبه الرداء الأسود المرصع بالألماس.ويضيف فوزي عقب عودته من جولة في أوروبا: «رغم كل شيء ما زال الأوروبيون يأملون في فتح باب السفاري هنا... ما زالوا يتطلعون لقضاء الإجازات في الصحراء. لكن هذا لم يعد ممكناً».ومن جانب آخر، وخلال زيارته لزملائه المصريين في مركز لتنظيم رحلات الصحراء انطلاقاً من ضاحية المعادي جنوب القاهرة، أخيراً، يضيف زين الدين عبد الله، وهو منظم رحلات تونسي: «مئات من سيارات السفاري لدينا خارج الخدمة. الطرق لم تعد آمنة، كما كان الأمر في الماضي».وكان عبد الله ينظم جولات وتخييماً لفرنسيين في صحراء دوز وجنوب تطاوين، وفي رمادة التي تبعد نحو 40 كيلومتراً عن الحدود الليبية. وانقلب الوضع الأمني في معظم هذه المناطق رأساً على عقب، بسبب نشاط المتطرفين العابر للحدود. وأصبحت السلطات في بلدان شمال أفريقيا تضع ضوابط صارمة لتفادي اصطياد المتطرفين لقوافل السياح.وفي الآونة الأخيرة، أوقفت السلطات المصرية منح تصاريح لتسيير هذا النوع من الرحلات. ويقول مسؤول على الحدود المصرية الليبية إن تشابه أنواع سيارات الدفع الرباعي التي تستخدم في رحلات السفاري، مع السيارات الصحراوية التي يستخدمها تنظيم داعش، تعد من أسباب وقف النشاط مؤقتا، رغم الخسائر. ويشير إلى أن مراقبة الحدود مع ليبيا، تعتمد في أغلبها على الطيران الحربي، وهذا لا يمكن توفيره على مدار الساعة لتكلفته المالية الباهظة.وفي كلمة له، أواخر الشهر الماضي، عقب قيام تنظيم داعش بقتل مسيحيين كانوا في حافلة قرب مدينة المنيا، التي تقع إلى الشرق من منطقة الواحات، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إنه جرى تدمير نحو ألف سيارة دفع رباعي أثناء تسللها من ليبيا لمصر، في السنوات الثلاث الماضية، وكذلك تدمير ثلاثمائة تقريباً خلال الشهور الثلاثة الأخيرة.وفي واحة الخارجة، ذات الهواء النقي والمنعش، تقف سيارة محمود بلونها البترولي أمام بيت والده المبني بالحجارة البيضاء وسط غابة من النخيل. ويقول إنه يفكر في بيعها، لكنه يؤجل الأمر على أمل أن تتحسن الأوضاع مستقبلاً. ويخجل من مهمتها الجديدة، في نقل الخضراوات. ويقول: «لم تُصنع لهذا الغرض». ويضيف أن أصدقاءه من منظمي رحلات السفاري من تونس وليبيا يعانون أيضاً بسبب الفوضى الأمنية وخطر «داعش».ومثل مئات المشرفين على العمل في قطاع السفاري، ورغم إصابة النشاط بالشلل، ما زال محمود يحتفظ بقائمة معارفه من أوروبا وشمال أفريقيا، ويتواصل معهم لتحديد مناطق الاضطراب، والأماكن التي يمكن زيارتها مستقبلاً، في هذا البلد أو ذاك.وانتعشت رحلات السفاري في صحراء مصر الغربية، بداية من عام 2005، وزادت بشكل كبير ضمن منافسة مربحة عبر صحراء الشمال الأفريقي. ولم يؤثِّر حادث اختطاف قُطَّاع طرق على الحدود المصرية السودانية لقافلة سياح أجانب عام 2008، على نشاط السفاري. بيد أن الأوضاع تدهورت في المنطقة الصحراوية الشاسعة بعد الإطاحة بحكم حسني مبارك. ويقول المسؤول الحدودي، وهو ضابط في الجيش رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث للإعلام: «في الوقت الراهن، أي سيارة دفع رباعي تظهر في الصحراء المتاخمة لليبيا، تتعرض للقصف من الطيران. لا هزل في هذا. الخطر كبير ونحن نتصدى له».ومن جانبه يضيف محمود قائلاً: «موجة 2011 لم تضرب السياحة في مصر فقط، ولكن معظم أصدقائنا ممن يعملون مثلنا في هذا المجال، وقعوا في المشكلة ذاتها... كنا نتعاون على تبادل قوافل السفاري مع منظمي رحلات من تونس وليبيا. وفي إحدى المرات، حين التقينا في باريس في عام 2009، أسسنا جمعية تضم أوروبيين ومصريين وتونسيين وجزائريين مهمتها الترويج لسياحة الصحراء». ويتابع أن «كل هذا توقف الآن. وما زال التونسي عبد الله عضواً في هذه الجمعية». ويقول إنه كان يطمح في توسيعها، مع زملائه، لتوجيه ألوف السياح الأجانب، إلى سياحة الصحراء، بدلاً من السفر إلى أماكن أخرى في شرق آسيا، وغيرها.وبعد أن استعرض أيام الرخاء، يوضح فوزي قائلا: «ما زاد الطين بلة، حادث السياح المكسيكيين. ويشير بذلك إلى تعرض قافلة سياح مكسيكيين، كانت متجهة إلى مدينة الباويطي للقصف من الطيران الحربي في عام 2015، عقب خروجها عن خط السير المحدد لها على الطريق المرصوف بالقار، إلى عدة كيلومترات داخل الصحراء. ومن حظ المكسيكيين العاثر أن السلطات المصرية كانت تبحث في ذلك اليوم عن متطرفين يقودون سيارات دفع رباعي في المنطقة نفسها».وعمل إمام فوزي طول سنوات في رحلات السفاري في الصحراء التي تمتد من مدينة الباويطي، إلى الحدود الليبية، بطول نحو 300 كيلومتر، ولديه خبرة بالاتجاهات في المساحات الجرداء وفي بحر الرمال، وغيرها من المسارات التي تصل جنوبا حتى الحدود مع السودان.«بخبرتك في هذه المنطقة، هل توجد دروب تصلح لدخول وخروج سيارات دفع رباعي عبر حدود مصر مع ليبيا؟»، فأجاب: «نعم... المنطقة مفتوحة. ليست دروباً محددة، بل هي أرض شاسعة يصعب ضبطها».ويبلغ طول الحدود المصرية مع ليبيا نحو 1100 كيلومترا، تبدأ من مدينة السلوم الواقعة في حضن هضبة، وتشرف على البحر المتوسط، وتهبط جنوبا بطول 300 كيلومتر حتى واحة سيوة التي تقابل واحة الجغبوب على الحدود الليبية. ثم تستمر إلى منطقة جبل العوينات على الحدود مع السودان.العمدة عبد الكريم ضيف، رئيس مجلس العمد والمشايخ في محافظة مطروح، المجاورة لليبيا، يقول إن كل هذه صحراء قاحلة وفارغة ورمال. ويضيف موضحاً: «لا يوجد أي تجمع سكاني في المنطقة الحدودية المصرية المحاذية لليبيا، باستثناء السلوم وسيوة».إلا أن فوزي يوضح أن المشكلة ليست في الحدود من السلوم حتى سيوة، ولكنها تبدأ من سيوة جنوباً... «أكثر من 700 كيلومتر لا يوجد فيها أي موانع طبيعية باستثناء كثبان بحر الرمال». ومن جانبه، يزيد المسؤول الحدودي قائلا إن غالبية محاولات التسلل بسيارات الدفع الرباعي من ليبيا إلى مصر كانت من منطقة بحر الرمال. وهذا البحر الرملي يعد من أكثر المناطق التي تحظى بشهرة وسط السياح الأجانب.ويبدأ بحر الرمال من سيوة ويمتد إلى الجنوب بطول نحو 150 كيلومتراً وعرض نحو 75 كيلومتراً، و«المتطرفون أصبحوا يقطعون هذه الرمال، بسيارات الدفع الرباعي»، وفقاً للمسؤول نفسه، الذي يشير إلى أن إحدى أهم المشكلات التي تعرقل تتبع آثار قوافل العابرين للحدود هي الحركة الدائبة للرمال، ولهذا تسمى «بحر الرمال المتحركة».العمدة ضيف يقول: «من الصعب المشي في بحر الرمال بالأقدام، سواء بالنسبة للمشاة العاديين أو للجنود». أما المسافة المتبقية من الحدود من جنوب بحر الرمال حتى جبل عوينات، ورغم أنها مساحة شاسعة، إلا أنه يمكن من خلالها رصد أي آثار لإطارات السيارات لخلوها من الرمال المتحركة. وتوجد فيها دروب طويلة للسير كان يستخدمها المهربون قديماً، ولهذا نادراً ما يلجأ إليها المتطرفون. ويوضح المسؤول الحدودي: «على كل حال توجد دوريات طيران حربي تقوم بالاستطلاع والتصوير».وتعد منطقة جبل عوينات هشة أمنيّاً، على ما يبدو، وذلك لوقوع الجبل، بظلاله السوداء، داخل حدود ثلاث دول، هي ليبيا والسودان ومصر. ووفقا للمصادر الأمنية يقوم المتطرفون بالاستفادة من دروب المهربين القديمة، التي تعتمد على الالتفاف حول الجبل من داخل الحدود المصرية بطول نحو 80 كيلومتراً. وتوجد هناك نقطتان أمنيتان مصريتان. وعلى الجانب الليبي هناك مركز مراقبة قديم.ووسط هذه الصحراء القاحلة، في غرب مصر، التي لا يوجد فيها أي مصادر للمياه، ولا للحياة، تتكبد قوات حرس الحدود مشقة الانتقال إلى المناطق المشتبه فيها، وسط الفيافي الشاسعة، من بحر الرمال حتى العوينات، وتنصب كميناً خفياً ليوم أو يومين، انتظاراً لمرور قافلة للقبض على من فيها... ويضيف المسؤول الحدودي: «بطبيعة الحال هذا يتطلب الحصول على معلومات استخباراتية مسبقة. أما إذا تم رصد دخول سيارات بالفعل دون أن يكون هناك كمين على الأرض لتوقيفها، فإن الطائرات الحربية تقوم بالمهمة».ورصد ضباط الحدود تسلل سيارات دفع رباعي من ليبيا عبر صحراء مدينة الباويطي، في نهاية الشهر الماضي. وبعد مطاردة مثيرة، سقط فيها ثلاثة ضباط وجندي، تم إفشال العملية ومنع المتطرفين من الوصول إلى المناطق الآهلة بالسكان. وجرى نقل الجثث والمصابين بمروحية عسكرية، بسبب وعورة المنطقة. ويقول المسؤول الحدودي إنه «عندما اقتربت دورية حرس الحدود فجَّر المتطرفون سيارة مفخخة»، مشيراً إلى العثور كذلك على مخازن لتجميع أسلحة وأحزمة ناسفة في مخابئ بالصحراء.وبينما ينظر إلى سيارته بأسى، يوضح فوزي قائلا: «لا أحد هنا من السكان المحليين يتستر على المتطرفين... لقد دمروا مصدر رزقنا... من ستين إلى سبعين في المائة من السكان كانوا يعملون في نشاط رحلات السفاري. كل هذا متوقف الآن، وعلى باب الله. ومَن أوقف حال السياحة في الفترة الأخيرة هي الأخبار التي تتردد عن نشاط (داعش)».ووسط لقاء المعادي، لمتضررين من توقف رحلات السفاري، من مصر وتونس وليبيا، يقول التونسي زين الدين عبد الله: «المشكلة في أن ثمن قطع غيار هذا النوع من السيارات مرتفع. ولا توجد إمكانيات للصيانة أو استبدال الإطارات. وإذا تعطل منها جزء لا تستطيع تغييره، لأنه لم يعد يوجد دخل. معظمها مركونة».ومن جانبه يضيف ابن الباويطي، إمام فوزي: «نحو خمسة وسبعين في المائة من سيارات الواحات البحرية كانت مخصصة لرحلات السفاري. لكن في السنوات الثلاث الأخيرة بدأ الناس في تكهينها أو بيعها خردة... كان عددها نحو ألف سيارة. والصالح منها في الوقت الحالي، نحو 200 فقط، وحتى هذه لم تعد قادرة على المشاوير الطويلة».
مشاركة :