إذا كان في مقدور فنان عربي أن يقف يوماً متأملاً عدداً لا بأس به من فناني أوروبا التجريديين الذين استلهموا نوعاً من الفنون والأشكال الشرقية في الجزء الأساسي من أعمالهم -ونقول هذا ونفكر هنا بخاصة ببول كلي- ليتمتم: «أوليست هذه بضاعتنا وقد رُدّت إلينا!»، فإن الفنان الذي يحق له أن يردد هذه العبارة أكثر من أي واحد آخر، سيكون المغربي أحمد الشرقاوي، الذي لا شك في أنه ضحك كثيراً حين كتب واحد من النقاد الفرنسيين إذ شاهد مجموعة من أعماله أن «هذا الفنان المغربي المبدع يستلهم في هذه الأعمال لوحات بول كلي». وهو ضحك بالتحديد لأن أي فنان مغربي، أو حتى عربي آخر، يريد أن يمزج بين الأصالة والحداثة «الأوروبية» لن يكون عليه أن يذهب بعيداً، إلى بول كلي أو غيره من كبار فناني القرن العشرين: حسبه أن يتلفت حوله ويتأمل كل ما يحيط به، من الطبيعة المتموجة المتنوعة، الى الأبسطة الممددة في بيوت الناس العاديين، الى زينة ملابس الأعراس والاحتفالات الكبيرة، وآيات الخط العربي ذي المدارس والأشكال المتنوعة، وصولاً حتى الى الرسوم التي تُخطَّط بالحناء وغيرها من المواد على أرجل وأيدي الفتيات. هذا كله موجود في الحياة الشعبية بألوانه الزاهية وخطوطه المتراصة المتيحة للذهن ألف تأمل وتأمل في ما قد يعنيه إن بُحث له عن معنى. > بكلمات أخرى: تلك العناصر التي أتى عشرات الفنانين الأوروبيين الى الشرق ساعين لمشاهدتها واستلهامها متضافرة مع الضوء الذي تسبغه الشمس عليها فتخلق فيها تلك التموجات التي صنعت جزءاً من حداثة القرن العشرين. تلك العناصر التي كان الفنان الأوروبي يجتاز ألوف الكيلومترات لتفحصها عن قرب وإدماجها في فنه ليبهر به وبها متفرجي أعماله، لم يكن أحمد الشرقاوي -وغيره من مبدعي الشرق- في حاجة الى اجتياز أية مسافات للقائه. هو موجود هناك دائماً محيطاً بهم يشكل جزءاً أساسياً من عالمهم اليومي. والحقيقة اننا إن تأملنا التشكيل الشرقي الذي يشكل موضوع لوحة أحمد الشرقاوي المرافقة لهذا النص، سيخيل إلينا أول الأمر أننا في إزاء صورة لبساط شرقي أبدعه فنان شعبي عرف في شكل جيد كيف يتأمل حياته اليومية ويحول أجزاء منها الى أعمال فنية. لكننا سندرك بعد هذا أن الشرقاوي، في هذه اللوحة تحديداً، نقل تفاصيل البساط الى قماش لوحة معاصرة وحرص على أن يرتب بشكل إبداعيّ مجموعة خطوط وألوان يشكل مجموعها تشكيلاً ساحراً يمكنه أن يقارَن بأفضل ما أنتجه الفن التجريدي الحديث، علماً أن فن الشرقاوي «الشرقي» هذا ما كان في حاجة لأن يُصنَّف «تجريديّاً» من ذلك المنظور التصنيفي الذي ساد في الغرب. فهو تجريدي في جوهره وربما لأسباب يفترض مبدئيّاً انها دينية. وبهذا، ما قد يبدو في لوحة كهذه، أوروبيّ النزعة حداثيّها، إنما هو في لوحة الشرقاوي من طبيعة الأمور. ووفق الرسام أن يكون قد تأمّل جيداً التراث الشعبي لحياته اليومية حتى يعثر عليه ويحوّله فناً نعرف اليوم بعد نصف قرن من رحيل صاحبه أنه فن كبير لا شك في أنه أدخل المغرب نفسه في دائرة «الحداثة التشكيلية» في العالم المعاصر، من دون أن يكون قد اضطر الى المرور بذلك التحقيب الذي أوصل الفنون الأوروبية الى تلك الحداثة التجريدية! > عندما رحل أحمد الشرقاوي عن عالمنا في شهر آب (أغسطس) من العام 1967 كان لا يزال في الثالثة والثلاثين من عمره، وكانت الحياة الفنية المغربية تعرفت إليه قبل سبع سنوات فقط، لكنها كانت سنوات مكثفة غنية، انتجت عملاً فنياً استثنائياً، فتح أمام المغرب آفاقاً واسعة وأدخل هذا البلد مباشرة في حمّى الفن الحديث كما أشرنا، في الوقت الذي ربط فيه في شكل أساسي ووثيق بين ما هو أصيل مستمد من التراث الشعبي التعددي، وما هو حديث مستمد من أحدث تقنيات الرسم والحفر التي كانت معروفة في أوروبا في ذلك الحين. > مع أحمد الشرقاوي، إذاً، ولد تيار جديد وتحديثي في الفن التشكيلي المغربي، تيار لم تنتهِ حياته بعد، حيث أننا لا نزال حتى اليوم نرى آثار الجهود الفنية الكبيرة التي بذلها ذلك الفنان الاستثنائي لدى أغلب المدارس والتيارات الفنية في هذا البلد، الغني على أي حال بنتاجه الفني. > ولد أحمد الشرقاوي العام 1934 في واحدة من القرى الصغيرة في منطقة جبال الأطلس الوسطى، وكان في إمكان حياته أن تكون عادية مثل حياة عشرات الألوف من أبناء جيله، لكن استثنائية طفولته، أتت من فقدانه المبكر لأمه، كما يقول كتاب صدر قبل سنوات عن حياته وأعماله، وشارك في وضعه عدداً من كبار النقاد والكتّاب المغاربة والفرنسيين، حيث على سبيل التعويض على الحرمان الذي سببته له تلك الحادثة الأليمة المبكرة، راح يطوف في المنطقة متأملاً غناها التشكيلي والتلويني، ممعناً النظر في الرقش القديم وفي الأزياء، وفي الهندسة المعمارية، وفي الوشم، وفي كل ما هو بصري، في عالم مغربي ريفي، يكاد البعد البصري فيه يغلف كل شيء. وهذا كله امتزج لديه بفضول مدهش جعله، ومنذ نعومة أظفاره، منكباً على تأمل جماليات الحرف العربي خلال دراسته القرآن الكريم في الكتّاب. وهذه العناصر، على رغم دخولها المبكر في حياته، وعلى رغم أنه ابتعد بعد ذلك عن مصادرها ممتزجاً في المدينة أولاً (الدار البيضاء) ثم في أوروبا ثانية، ظلت مسيطرة عليه وتشكل حتى رحيله المنهل الأول لفنه. > تلقى الشرقاوي دراسته الثانوية في الدار البيضاء، وهناك اكتشف أن ميله الأساسي فني، وكان اختياره واضحاً: سيتوجه إلى فرنسا وسيدرس الفن، سواء أكان تطبيقياً أم تشكيلياً. وهكذا نجده أواخر الخمسينات في العاصمة الفرنسية منتسباً إلى «المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة» حيث اهتم، خصوصاً، بدراسة فنون الحفر والطباعة. غير أن المدرسة لم تكن كل شيء بالنسبة لديه: المهم كان المعارض. ففي ذلك الحين كانت باريس، كما هي وكما ستظل دائماً، معرضاً كبيراً دائماً ومتنقلاً، تتجاور فيها المدارس الفنية كافة، من انطباعية وتجريدية وما بعد حداثية إلى تكعيبية وغيرها. من هنا لم يكن من الصدفة أن تكون أعمال بول كلي هي الأعمال التي تلفت نظر أحمد الشرقاوي أكثر من غيرها. فهو وجد لدى الفنان السويسري/ الألماني المتأثر بالحروفية العربية وبالرقش الأندلسي والشمال أفريقي، تشكيلات توازي التشكيلات التي كان يحلم بتنفيذها، وهكذا كانت لوحات بول كلي، لا سيما منها تلك ذات الطابع الشرقي، معلمه الثاني، من ناحية إمكانية وجود اللوحة إنطلاقاً من عناصر ما كانت تشكل لوحة للتعليق على جدران المعارض والمتاحف، أي تنقل من الحياة اليومية الى الموضع الاستثنائي، وذلك بالتناغم مع البعد البصري الذي لاقاه في مسقط رأسه جبال الأطلس. > أما العنصر التالي فكان الفنون الشعبية التي عاد ليدرسها، وهذه المرة في شكل مكثف وواعٍ، في المغرب بمنحة من اليونيسكو. وهكذا تكونت لديه العناصر التي ستسيطر على لوحاته كلها وستجعل منه فنان المغرب الأول، حين عاد ليستقر في الدار البيضاء بعد أن أنجز دراسته. ولكن في الدار البيضاء كانت النهاية السريعة المبكرة، على أي حال، في انتظاره، حيث فيما كانت تجرى له عملية عادية لاستئصال الزائدة الدودية قضى مأسوفاً عليه، هو الذي لم يزد عمره الفني، كمحترف، عن سبع سنوات كانت -كما قلنا- كافية على أي حال لفتح ابداعاته على أقصى أبعادها. > ما يذكر لأحمد الشرقاوي، وما يلح عليه العدد الأكبر من النقاد والباحثين في الكتاب المهم الذي صدر عن عمله، هو ذلك المزج الذي أتى لديه خلافاً بين ما هو نابع من التراث الشعبي، وما هو مرتبط بالحداثة والعصر. ومن هنا ما يقال الآن، عن أن أحمد الشرقاوي أعاد إبداع الفن الشعبي من جديد ووضعه على سكة العالمية، إذ إننا في إمكاننا أن نتحدث، وبكل بساطة، عن الفن الشعبي المغربي قبل أحمد الشرقاوي، وعنه بعد أحمد الشرقاوي. وفي هذا الإطار، من المؤكد أن الحياة التشكيلية المغربية، التي تعتبر من الأغنى في العالم العربي، تدين بالكثير لأحمد الشرقاوي.
مشاركة :