هل يمكننا القول إن «عميد المسرح العربي» يوسف وهبي كان محظوظاً برحيله قبل ولادة الإنترنت وبروز ظاهرة تعليق الناس على الكتب والأفكار والمواقف والأعمال الفنية؟ أو أن عدم تعرّفه الى ذلك النشاط «الثقافي» الجديد كان أمراً سيئاً بالنسبة إليه؟ الحقيقة أننا لو نقرأ اليوم تعليقات القراء، الكثر على أي حال، الذين قد يقيّض لهم أن يطلعوا في أيامنا هذه على كتاب مذكراته الظريف المعنون «عشت ألف عام» سنصاب بالحيرة على الأقل في مجال وصولنا الى جواب عن السؤال الذي نطرحه. فثمة من بين المعلقين من يمتدح الكتاب ويقول انه عرّفه إلى أجواء فنية واجتماعية كانت سائدة في زمن يوسف وهبي، ما كان يخطر وجودها في البال. ولكن ثمة من يتأفف من كثرة ما في النصّ من مبالغات و «أكاذيب» ونفخ في الذات لا يستقيم مع الصورة التي ترسمها كل تواريخ الحركة الفنية والاجتماعية، حيث يصعب تصديق أية صفحة من مذكرات الرجل كما هي. ومع هذا بين الفريقين فريق ثالث، كان من شأنه أن يستهوي بتعليقاته، ومهما كان مقدار السلبية فيها، مزاج يوسف وهبي نفسه. فريق يرى أن أجمل ما في «عشت ألف عام» هو مبالغاته. ويتساءل هذا الفريق عما إذا كان مطلوباً من الفنان أن يكون مؤرخاً موضوعياً... أم أن على الفنان أن يبقى فناناً هائماً في الخيال منذ لحظات وعيه حتى لحظاته الأخيرة؟ بالنسبة الى هذا الفريق قد لا ينبغي قراءة كتاب يوسف وهبي على أنه تأريخ للحركة الفنية في مصر ولا لحياة صاحب العلاقة نفسه. بل مرآة لكيف كان الفنان يفكر وكيف يرى الفن مدركاً أن الإبداع بعد كل شيء، نوع من استبطان خيال المبدع ورسم صورة للكيفية التي يريد أن تكون عليها الأحداث، لا للأحداث الحقيقية وحدها. > ومن المؤكد أن هذا النوع من القراء اللاحقين كان هو من كتب له يوسف وهبي نصّاً يبتعد عن أية صدقية موضوعية ليدنو حثيثاً من ملكوت الإبداع. ولئن كان وهبي قد اعتاد بعد إنجازه ما أنجز من نصّ كتابه أن يشكو من أن القراء لم يفهموا الكتاب، من المؤكد أن القراء اللاحقين أبدوا في تعليقاتهم الراهنة على «عشت ألف عام» فهماً منصفاً للكتابة الفنية، حتى في مجال التفريق بين الحقيقة المطلوبة من المؤرخين والخيال المطلوب من الفنانين. بيد أن هذا لا يعني أن كل ما في فصول هذا «التاريخ» الفني الذي وضعه يوسف وهبي لنفسه ولمساره كان مخترَعاً من ألفه الى يائه. بل على العكس فهو يحوي الخطوط العريضة وأحياناً التفصيلية لمساره الحياتي والفني المعروف. أما التدخل ففي التفاصيل والتفسيرات والمكانة التي كان يحتلها هو في الحدث. وحسبنا في هذا السياق أن نقارن بين ما تكتبه سعاد أبيض نقلاً عن أبيها جورج أبيض حول رحلة فنية مشتركة قام بها هذا الأخير مع يوسف وهبي، وما يذكره هذا الأخير حول الرحلة ذاتها لندرك فحوى ما نذهب اليه. فالحقيقة أنه حين تختفي الحقيقة تبقى لذة القراءة والاستمتاع بالكيفية التي يروي بها صاحب العلاقة «رؤيته» للأحداث. وهذا ما يبقى بالتأكيد من «عشت ألف عام». الكتاب الذي أسند فيه صاحبه لنفسه وظيفة «مندوب العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل»! > «... ويوسف هو الأول والأخير الذي يحمل هذا اللقب الجريء والعجيب: مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل، وهو لقب مصنوع لم يسمع به أحد من قبل، صنعه، كما يقول البعض، شاطر من الشطار الذين كانوا يتولون أمر الدعاية والإعلان لفرقة رمسيس وصاحبها يوسف وهبي، أو هو لقب من صنع يوسف نفسه، كما يهمس بعض الخبثاء، أطلقه هو على نفسه في ساعة من ساعات زهوه وحماسه لنجاح فرقته». كاتب هذا الكلام هو الفنان زكي طليمات، الذي كان، طوال عقود من الزمن، صديق يوسف وهبي ومنافسه الأول. وسواء كان ما يقوله طليمات صحيحاً أم غير صحيح، فإنه يعكس، في الحقيقة، جانباً أساسياً من جوانب شخصية «عميد المسرح العربي» الذي عرف على الدوام باعتداده بنفسه وبغوصه حتى الثمالة في فن التمثيل الذي كان يراه الأمر الوحيد في هذا العالم، الذي يستحق اهتمام فنان مثله. > يوسف وهبي الذي ملأ الحياة الفنية المصرية والعربية طوال أكثر من ثلاثة أرباع القرن، حسب تعبيره هو نفسه، وطوال نحو من ستة عقود حسب مؤرخي سيرته، توفي وهو بعد في قمة مجده، وهو بعد مؤمن بدور الفن ورسالته في العام 1982، وهو لا يفتأ يقول إن كل ما تعرفه مصر والعالم العربي من تألق في فن المسرح والتمثيل، انما هو من بعض إرثه ومن بعض ما حققه، طوال حياته الفنية. والغريب في كل هذا، أن يوسف وهبي الذي حمل عبء فن التمثيل والمسرح طوال كل تلك السنوات، تحدر من أسرة لا تنظر الى الفن بأدنى احترام، وكان ابناً لباشا ينظر الى الفنانين نظرته الى السوقة والرعاع. > ومع هذا، عرف وهبي المولود في 1898 كيف يشق طريقه بعد أن شق عصا الطاعة، وكيف يخوض لعبة الفن ويغوص في عالم الفن (الهمجي في ذلك الحين) من دون أن يتخلى عن ارستقراطيته وكبريائه ولو دقيقة. ويذكر الذين عرفوه، أواخر أيامه، حين زار بيروت وقام بأدوار قصيرة في بعض أفلامها في السبعينات، كيف كان يمضي وقته بين المكتبات راطناً بشتى اللغات واللهجات، محتقراً الأفلام التي يعمل بها، مصراً على أن مكانه الطبيعي إنما هو حلقات المثقفين والمجتمعات المخملية. > في بداية شبابه كان أبوه أرسله الى إيطاليا ليدرس علوم الكهرباء، لكنه هناك «تكهرب» بفن المسرح فارتمى في أحضانه وحين عاد الى مصر كان قد قرر أن يجعل من المسرح مهنته وحياته، وساعده على ذلك إرث تركه له أبوه جعله من الأثرياء، وقرر هو أن يكرس الإرث كله للنهوض بفن المسرح، محاولاً أن يوجد مسرحاً مثقفاً راقياً يقف في وجه المسارح الهزلية والميلودرامية التي كانت رائجة في ذلك الحين. وكان من الدلالة بمكان أن يطلق يوسف وهبي على الفرقة التي أسسها إسم «فرقة رمسيس» معلناً انتماءه الى الحضارة والتاريخ في آن معاً. وعبر فرقة رمسيس هذه ومعها، خطا يوسف وهبي خطواته الكبرى والجبارة، فعمل حقاً على الارتفاع بفن المسرح، وساهم في جذب أبناء العائلات والمثقفين الى فن كان، من قبل، وقفاً على «الصيّع» ومن شابههم. وهذا كله رواه يوسف وهبي في تلك المذكرات التي حملت عنواناً معبراً هو «عشت ألف عام»، ورد فيه أصول أسرته الى تونس، وأصول تعلقه بالمسرح الى مشاهدته لمسرحية «عطيل» كما قدمتها في مصر فرقة سليم القرداحي اللبنانية. أما أول مرة ظهر فيها يوسف وهبي على المسرح كممثل فكانت في مسرحية «الشرف المغتصب». وانطلقت حياته الفنية على ذلك النحو. > مهما يكن فإن يوسف وهبي رغم تعظيمه لذاته على الدوام، ورغم ديكتاتوريته في تعاطيه مع فرقته وشؤونها، عرف كيف يفتح المجال واسعاً لبعض الذين صاروا، انطلاقاً من العمل معه، نجوم المسرح ثم السينما الكبار في مصر، من روز (فاطمة) اليوسف الى فاطمة رشدي وأحمد علام وحسين رياض وعزيز عيد وزينب صدقي. ولقد عاشت فرقة رمسيس حتى العام 1961، وسط هالات مجد لم تشاركها فيه أية فرقة. ويقول تاريخ يوسف وهبي إن فرقة رمسيس قدمت في مسيرتها 224 مسرحية تولى بطولتها أصحاب الأسماء المذكورة، الى جانب أمينة رزق وحسن البارودي وزكي رستم ودولت أبيض. ولقد كتب يوسف وهبي وأخرج معظم تلك المسرحيات التي تميزت على الدوام بنزعة وعظية واضحة وبحس ثقافي مرهف. أما في السينما التي واكبها يوسف وهبي منذ بداياتها، فلقد أخرج ومثل وشارك في عدد كبير من الأفلام أشهرها «أولاد الذوات» و «كرسي الاعتراف» و «راسبوتين». > لقد كان يوسف وهبي حالة على حدة في تاريخ المسرح المصري، حالة لا تظهر سوى مرة واحدة، تيمناً بعبارته الشهيرة «شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة» التي قالها في عدد كبير من مسرحياته وأفلامه واتخذت مثلاً ضارباً.
مشاركة :