يلتقط الرئيس الأميركي باراك أوباما هاتفه ويطلب الحديث مع بروس رايدل الخبير في شؤون الإرهاب في مركز بروكينغز، ليبدي له المشورة في أمر يخص الأمن القومي. يمر إعداد القرار في الدول المتقدمة بمراحل عدة؛ فعوضاً عن الإجراء الإداري البيروقراطي يستعين المسؤول في منصبه بجملة من المستشارين الباحثين كلّ في مجاله، وفي الأغلب يتم استقطاب هؤلاء المستشارين من المراكز البحثية التي تزخر بها الجامعات. وفي الواقع، فإن دور المراكز البحثية المتخصصة في البلدان المتقدمة يعتبر ريادياً وأساسياً وفاعلاً، إذ يُنظر لتلك المراكز باعتبارها شريكاً رئيسياً في إدارة الحكومات، وليست جهازاً مستقلاً يغرد خارج السرب. فمنها تولد الأفكار والمبادرات وتوضع الإستراتيجيات، وتنفذ على أرض الواقع. في الولايات المتحدة على سبيل المثال يقوم مجموعة من الباحثين في كافة المجالات السياسية الداخلية والدولية والشؤون الاجتماعية، بتقديم مرئياتهم إلى البيت الأبيض بداية كل فترة رئاسية، وتحديد الأولويات، وكيفية التعاطي مع الملفات، استناداً لتراكمات معرفية علمية حصل عليها هؤلاء الباحثون المتخصصون في مجالات دقيقة، بعد حصيلة من الاطلاع الواسع على الكتب والبحوث لفترة من الزمن، واستطاعوا الإحاطة بالكثير من التفاصيل، التي يجهلها في بعض الأحيان أهالي تلك المنطقة أنفسهم. وانطلاقاً من هذا الرصيد الهائل يقدم الخبير أو الباحث استشارته بكل ثقة، ويبقى لصاحب الصلاحية اتخاذ القرار المناسب، بعد أن يكون قد توصل إلى خلاصة ما يقدمه المستشارون. وغالباً ما يظل المسؤولون الذين يتصدرون المشهد العام في بلد ما، محدودي القدرات في بعض المجالات، وهذا أمر طبيعي فمنهم من يأتي من خلفية اقتصادية لكنه يجهل تفاصيل سياسية أو العكس والبعض منهم قانوني أو مثقف. الاستعانة بالمراكز البحثية لبناء السياسات، وتحديد الاستراتيجيات، تضمن سير العمل بشكل علمي ومنهجي، بعيداً عن القرارات الارتجالية التي في غالبها مضيعة للوقت والمال والجهد. ولا شك في أن جامعاتنا تزخر بالمراكز البحثية التي يعلو أبحاثها الغبار، دون الاستفادة من مخرجاتها، التي أعدها متخصصون صرفت الدولة الملايين لتعليمهم. والكثير من الأزمات التي تواجهنا هي نتاج القرار الارتجالي الذي يستند على التخمينات أو الأهواء، والبعض من المؤسسات الحكومية، لا تجد حرجاً في إسناد بعض دراساتها لمراكز أجنبية متغافلة ما تحويه الجامعات من مرافق وكوادر سعودية، لديها من القدرات ما هو أكثر دراية بالطبيعة السياسية والاقتصادية والثقافية من أي مؤسسة أجنبية. وفي النهاية يقدم هذا المستشار فاتورة مكلفة بأتعابه لا يمكن أن يحصل على نصفها الباحث السعودي، الذي أنصفته بعض المراكز البحثية والمؤسسات الأجنبية. حصيلة الأبحاث العلمية تعاني كذلك، وهي أشد وطأة على الوطن قبلها على المواطن، إذ يتم تمويلها بأرقام كبيرة، ثم لا تجد طريقها للتنفيذ. وفي الحقيقة لا يمكن للبلد أن ينهض دون الاستثمار في الأبحاث، وما وصلت إليه الدول المتقدمة مثل اليابان وكوريا والهند وألمانيا من تقدم هو نتاج البحث العلمي، بالرغم من افتقارها للموارد الطبيعية وأعني هنا النفط الذي يسهم بشكل أساسي في التقدم العلمي والحضاري لتلك البلدان. كما أن تمويل الابحاث هو مطلب ضروري لشركات القطاع الخاص في المملكة ويكفي أن نعرف أن شركة (بورش) الألمانية خصصت 400 مليون يورو لتطوير أحد قطاعاتها فقط.
مشاركة :