الموصل في كوخ العم تومبدأ سواد تنظيم الدولة الإسلامية ينقشع عن سماء الموصل لكن ذلك لا يعني لأهالي المدينة عودة الحياة إلى مدينتهم أم الربيعين. فالنظر إلى المدن العراقية المجاورة يشي بأن ربيع الموصل لن يزهر قريبا، ما دامت الطائفية العراقية قد استعادت الموصل من داعش لتبث فيها سمومها وتسحق ما بقي فيها تحت أقدام الميليشيات الشيعية الإيرانية.العرب أسعد البصري [نُشر في 2017/06/29، العدد: 10676، ص(7)]أين المفر أحيانا تشعر بأنك تستطيع أن تقضي بقية حياتك تكتب عن تونس أو مصر أو حتى عن السعودية، غير أنه وكما حدث في حالة الموصل فإن الشعب يجبرك على أن تكتب أو على الأقل أن تسمح لهم بالكلام من خلال اسمك. في بعض الأحيان يقرر الكاتب الابتعاد عن الأشياء التي تُثقل القلب غير أن الأمر لا ينجح دائما. بعد مقالي الأخير وصلتني رسالة تقول «نُقدّر لك عاليا اهتمامك بقضية الموصل المنكوبة. نحن على استعداد لتزويدك بأي معلومات “حقيقية” عمّا يجري في الموصل من انتهاكات. المثقفون في الموصل مستهدفون وربما تصل الحالة إلى التصفية الجسدية، لذلك هم لا يتكلمون وهناك أسباب كثيرة تجعلهم لا يتكلمون في السياسة». وتقول رسالة أخرى “أكثر البيوت التي قصفت من الطائرات وأصبحت غبارا هي بيوت تعود إلى أطباء وأساتذة جامعات ومثقفين. مثلا بيت الدكتور محمد طيب من 3 طوابق مع سرداب تم تدميره بالكامل لوجود قناص بالسطح، حيث تم التعامل معه بصاروخ فهوى على عائلته وزوجته الدكتورة أيضا. الدكتورة سعاد الخشاب تم تدمير بيتها الذي كان يوجد به 15 فردا. المستشفيات تحرر من الجيش دون أضرار ثم ينسحب الجيش منها ليأخذها داعش فيتم تدميرها بالكامل”. ربما تفوق علينا الغرب بمقدار ما يمتلك من قلب مسيحي إنساني. لا بد من الاعتراف بأن مشكلتنا في الأساس هي في ألقيم. ربما الغرب يبشر بالعلمانية غير أنه يدخلك إلى بيته ويعطي اللاجئ حذاء وبنطالا ويضعونه في بيت آمن. منذ اليوم الأول يعطونه مصروف جيب ليشتري به طعاما وحفاظات لطفله ومساعدات لزوجته. يقدمون له بلادهم وجنسيتهم وفرصة لحياة جديدة وكرامة مساوية لكرامتهم، وحقوقا مساوية لحقوقهم. هكذا فعلت ألمانيا حين استقبلت مليون لاجئ سوريّ. إذا كان الغرب يبشر بالقيم الإنسانية والعلمانية فله كل الحق والقدرة والمؤهلات الأخلاقية. ولا أعرف كيف نبشر نحن بالإسلام مثلا؟ ليس عندنا قانون تجنيس؟ ولا حقوق للضعفاء، حتى نقدنا لداعش الإرهابي في العراق همجي ومبني على الجنس وجهاد النكاح واستقبال الغريب. لقد أصبحنا فضيحة أخلاقية كبيرة.المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي تبجح مرة في مجلة أميركية وقال إنه قد تأثر بـ"كوخ العم توم" ولكن من الواضح أن سياسة ميليشياته في العراق تثبت أنه لم يفهمها إن القلب أيضا مهم وليس فقط العقل والتحليل السياسي. فما هو المغزى النهائي من الفكرة السياسية، أليس السعي نحو العدالة والانحياز للضعفاء؟ إن تفكيري بأهل الموصل يحتاج إلى قلب وهذا أمر أحاول تجنبه لأنه مرهق، فليس التحليل السياسي المجرد مشابها لهذه المخلوقات المعذبة حين تتعلق بك وتكشف لك عن أوجاعها. لهذا قررت في العيد أن أتضامن مع الموصل على طريقتي. المدينة التي يدفع الهاربون منها جثث بناتهم على العربات؛ والتي تقول اليونيسيف أصبح هناك 5 ملايين طفل يعانون وهم بحاجة ماسة إلى المساعدة. لا بد أن ذلك يعني شيئا ما لكل عربي صاحب قلب سليم. متهمون سلفا في العيد قررت أن لا أقرأ كتابا سياسيا بل فتحت رواية لكاتبة أميركية عظيمة هي السيدة هيريت ستاو التي نشرت روايتها “كوخ العم توم” عام 1852 وكانت الأكثر مبيعا في أميركا بعد الكتاب المقدس. حتى قيل إنها كانت السبب في اشتعال حرب تحرير العبيد في أميركا عام 1861. في الحقيقة لا أحب قراءة الكتب الإنسانية العظيمة فهي ثقيلة على النفس، وبتأثير منها قد يفقد الكاتب مرحه. لم ينفع صمودي في الفصول الأولى فما أن وصلنا إلى موت الطفلة إيفا حتى غرق الكتاب بدموعي واختنق صدري. الطفلة الملاك التي وهبت نفسها للرحمة واستشعرت عذاب العبيد، وتقول ليس ما يثقل صدرها سماع القصص الحزينة عن هؤلاء العبيد بل الظلم نفسه هو ما يؤذيها. ما يتعرض له أهل الموصل اليوم هو تمييز طائفي وعنصري، وكما كان يُطلب من الزنوج في سوق النخاسة إظهار المرح والسعادة والتهريج ليسهل بيعهم، يُطلب اليوم من أهل الموصل الاحتفال وإظهار الجذل والحبور في مذبحتهم، وكما لا يوجد قانون يحمي الزنوج قبل الحرب الأهلية الأميركية فإنه لا يوجد قانون اليوم يحمي سنة العراق؛ إنهم متهمون سلفا.وجع لا يطاق وكما تقول السيدة ستاو فإنه لا فائدة من طيبة السيد طالما القانون لا يحمي العبيد، وكما كان النخاسون والإقطاعيون يستعينون ببعض العبيد المتوحشين على ظلم أبناء جلدتهم وتعقب الفارين منهم برفقة الكلاب وجلدهم حتى الموت، فإن السلطة الطائفية في العراق تستعين بهذا النوع من المتوحشين في السياسة والثقافة. حتى أنك تخشى من هؤلاء السنة أكثر من غيرهم حين تدافع عن مظلوميتهم. وهذا ما جاء في رواية العم توم على لسان السيدة كاسي مخاطبة العم توم “ومن هم هؤلاء الكلاب البؤساء الذين تعمل معهم حتى تتألم من أجلهم؟ إن كلا منهم خليق بأن ينقلب عليك عند أول فرصة. إنهم جميعا متوحشون أشداء على بعضهم”، لكنها كانت مخطئة لأن إصرار العم توم على نهجه القويم جعل الجميع يتغير. الذي أثار اهتمامي أن السيدة ستاو لم تنظر إلى موضوع العبودية من وجهة نظر اقتصادية عقلانية كما فعل المؤرخ الإسرائيلي يوفال هراري مثلا، ولم تنظر إليها نظرة ثورية كما فعل كارل ماركس حين جعل من العبودية في أميركا عارا على الكنيسة والدين عموما. السيدة ستاو خاطبت القلب المسيحي النبيل والإنساني ولم تهاجم الإيمان الديني رغم أنه كان شريكا بالجريمة بل جعلت من الإيمان الحقيقي “إيمان العم توم” سلاحها ضد المسيحية المتوحشة. جعلت من المسيح الإنساني في مواجهة مع المسيح الذي يؤمن به النخاس. الموصل بحاجة إلى روح كبيرة بهذا الحجم. فليس المطلوب تحطيم الروح بل إنقاذها على نحو يداويها. وليس المطلوب انتشار ميليشيات طائفية تُمارس الاغتصاب والقتل، ولا دولة طائفية تتلذذ بعذاب النازحين، نحن بحاجة إلى انقلاب في الروح والوعي والقيم. إن داعش أبغض عصابة على قلب السيدة ستاو. فهؤلاء المجرمون لم يكتفوا بسبي الإيزيديات، وهن مواطنات عراقيات نبيلات، بل كتبوا في مجلتهم القذرة عن عودة الرّق وربطوا ذلك بفهمهم للإسلام. تماما كما فعلت الكنيسة الأميركية في الولايات الجنوبية حين كانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تدافع بحماسة عن الرّق وتلحق العار بأميركا والمسيح معا. إسلام الموصل العربي كانت لدى أميركا هذه الروح العظيمة روح الكاتبة ستاو لتقول “لا”. ولم تقل نهدم الكنائس ولا نجدف باسم المسيح بل حاولت بث الضمير في القلب المسيحي نفسه ليرفض الظلم الإنساني. وهكذا في الموصل لا يكون الجواب على هذه العصابة الداعشية بهدم الجوامع وبناء مراقص مكانها، ولا بذبح وتهجير عوائل من النساء والأطفال انتمى بعض أفرادها إلى داعش، ولا بتعذيب النازحين أو سحق المدينة، ولا بروح طائفية انتقامية إيرانية عنصرية. لا بد من مكان في قلب الإسلام العظيم نفسه “إسلام الموصل العربي” يرفض التطرف والإرهاب الداعشي وينتصر من الداخل. إن الموصل لا تتشرف بداعش، ولا تتشرف بالحكومة الطائفية التابعة لإيران التي كانت ولا تزال أسوأ من داعش، بل هذه السياسة الطائفية هي السبب في ظهور داعش وسقوط المدن بيد الإرهاب. إن الأدب العالمي رغم تعذيبه لقلوبنا لما فيه من ضغط هائل على المشاعر إلا أنه في النهاية يساعد على الفهم. فهو يسلك طريقا آخر للحقيقة؛ طريق الضمير الإنساني والقلب النابض. ليس دائما العقل والتحليل السياسي يفيان بالغرض، أحيانا علينا العودة إلى إنسانيتنا كما فعلت السيدة العظيمة ستاو في “كوخ العم توم”. يقول دويتويفسكي حتى بعد تحرير العبيد في أميركا فإنهم وقعوا فريسة للمرابين والإدمان على الكحول. فبعد أن كانت العبودية تحثهم على الورع الديني صارت الحرية تدفعهم إلى الضياع. إن الطائفية العراقية التي تحرر الموصل من داعش تريد فعل الشيء ذاته. تحويل الانحلال والإدمان على الكحول والمخدرات الإيرانية إلى صك غفران من داعش. العنصرية والطائفية المكفولتان بالقانون والسياسة العراقية قضية معروفة في التاريخ، والحكومة العراقية بحاجة إلى تغيير فلا يمكن تجريد شعب عربي عظيم بأكمله من هويته وكرامته لصالح إيران وأطماعها التوسعية فهي التي سمحت بسقوط مدن عراقية بأكملها في يد العصابات وقطاع الطرق. لقد تبجح خامنئي مرة في مجلة أميركية وقال إنه قد تأثر بـ”كوخ العم توم” ولكن من الواضح أن سياسة ميليشياته الإجرامية في العراق تثبت أنه لم يفهمها. إنها ضد الطائفية والعنصرية وضد الإيمان الأسود المتطرف. تنتهي الرواية بكلمات عظيمة أجملها “فكروا في الحرية كلما رأيتم كوخ العم توم”. كاتب عراقيأسعد البصري
مشاركة :