لكل متحدث عن حرية الإعلام أن يفهم أن الحرية مضبوطة بأخلاقيات. ولكل متشدق بالديمقراطية عليه أن يستوعب أن لكل دولة أعرافها ولكل شعب الحق في تقرير مصيره بعيدا عن التدخلات الخارجية والأجندات المشبوهة.العرب إيمان الزيات [نُشر في 2017/06/29، العدد: 10676، ص(8)] نقرأ في الصحف العربية والأجنبية ونسمع في عديد وسائل الإعلام عما يسمى بـ“الأزمة الخليجية”، في إحالة لقرار المقاطعة الذي اتخذته المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر، ودول أخرى، ضدّ قطر. تعكس هذه التسمية في جانب منها (الأزمة الخليجية) مغالطة ترددها الأصوات الموالية للدوحة والتي تعالت، منذ صدور القرار الجريء، وأطلقت العنان لوسائل إعلامها الرسمية ولغيرها من الجرائد والقنوات والإذاعات المأجورة لمهاجمة الدّول المقاطعة وقياداتها وحتّى سياساتها. يشهد المتابع العربي، بين متفرج وقارئ، حملة إعلامية مسعورة يتعمد أصحابها الخوض في أحداث تاريخية بغاية تزييفها ويتّخذون من خلط الأسماء استراتيجية لخلق حالة من الفوضى والضبابية حتى تتعذّر الرّؤية على المتابع وتختلط عليه الأمور فيستحيل الفهم الموضوعي وتغيب المعرفة بالأسباب الفعلية التي دفعت دولا عربية كبرى لتوحيد الصف والإجماع على قرار فيه الكثير من الشجاعة والحكمة وبعد النظر. تشبه الهجمة الإعلامية القطرية في كثير من تفاصيلها هجمات مماثلة كنا قد شهدناها في تونس بعيد انطلاقة ما يسمّى بالرّبيع العربي. كانت هذه الهجمات ممنهجة ومنظمة ومتصاعدة على مستوى الوتيرة وعلى مستوى الانحطاط أيضا. كان الهدف في تلك الفترة هو السعي لاستغلال حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية لخلق فوضى من نوع آخر وفي المجال الإعلامي خاصّة. كان الهدف من هذه الفوضى التعتيم على التاريخ العنيف لحركات الإسلام السياسي وفتح المجال لتخوين الوطنيين من الغيورين على استقلال وسيادة أوطانهم وبقيّة الأطراف السياسيّة التّي لم تتخذّ من الإسلام غطاء تتستّر به زورا وبهتانا لخدمة أجنداتها ومصالحها الضيّقة. اختلطت الأمور على بعض المتابعين لما يجري في تونس في البداية؛ فنادى بعضهم بضرورة المحافظة على حرية الإعلام واستمات البعض الآخر في الدفاع عن الصحف والقنوات الموالية لحركات الإسلام السياسي بدعوى لزوم القبول بكل الأصوات وإن كانت نشازا أو خطرا محدقا بالمجتمع والأفراد.الأزمة اليوم ليست أزمة خليجيّة بل هي أزمة قطرية، وأزمة تواجه جميع حركات الإسلام السياسي في المنطقة وتبشر بسقوط هذه العناصر الشاذة التي تهدد وحدة الخليجيين وكافة الشعوب العربية رغم الفوضى المتعمّدة، كانت هناك عيون بصيرة وعقول حكيمة تساءلت أيامها عن مصادر تمويل تلك الأبواق الإعلامية وخطوط تحريرها التّي توافقت بشكل مثير للريبة مع الخط التحريري لقناة الجزيرة والصحف القطرية في الإشادة بالدّور القطري و“دعم الثورات”. وفي 13 يناير 2012 حل ركب أمير دولة قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ليتفضل على الحاضرين من الصحافيّين التونسيين بمقولة “إنتو شايفين كيف أنا أعلم رئيسكم كيف يقف ويصافح”. وذلك أثناء مصافحته للرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي. لم يجبه المرزوقي يومها، وهو الذي كان ومازال من بيادق قطر في تونس ومن المتملّقين لأميرها والمنتفعين من قناة الجزيرة. لم يجبه “الرئيس” المرزوقي وأجابه التونسيون بموجة غاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي وبمسيرات حاشدة ضد التدخّل القطري في الشؤون الداخلية للبلاد. كانت رسالة التونسيين يومها واضحة: إن كان المرزوقي غير قادر على الرد فالشّعب التّونسي قادر على ذلك وهو يذكر قطر وأميرها بالحجم الحقيقي للدوحة وانعدام وزنها في المنطقة. سار الإعلام الموالي للإسلام السياسي في تونس أيامها على درب التخوين والتكفير والمغالطة ومضى بعيدا بإصدار الدعوات المبطّنة والصريحة لتعطيل الأمور في البلاد وتحريض الناس على بعض الأحزاب وقادتها وتمهيد الطريق لتصفية عدد من الشّخصيّات الوطنية التي دأبت على فضح ممارسات الإسلام السياسي ومخططات أتـباعه في تونس والعالم العربي. في 6 فبراير 2013، أفاق التّونسيّون على خبر اغتيال شكري بلعيد. عجّلت حادثة اغتيـال بلعيد باستفاقة التونسيين وبمراجعة حقيقية للمفاهيم والمقاصد التي تحدد حرية الإعلام والعمل السياسي. وفي 3 مايو 2013 كان الإعلان الرسمي عن إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السّمعي البصري التي تتكفـل بتعديل المشهد الإعـلامي وتنظيمه وتسعى لإرساء استقلاليّة وسائل الإعلام عن كل السلطات السياسيّة والمالية. رغم أهمية هذا التطور فإنه لم يكن كافيا؛ ففي 25 يوليو من نفس السنة تمت تصفية محمّد البراهمي الذي اشتهر في السّاحة السياسيّة التونسية باعتباره معارضا شرسا لحركة النهضة. وشكل اغتيال البراهمي النهاية الفعلية لسيطرة النهضة على الحكم في تونس وسقوط الائتلاف الثلاثي الحاكم (حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي لأجل للعمل والحريات) ليفسح المجال لحكومة مستقلة بقيادة مهدي جمعة.لعلنا اليوم نشهد استعادة المملكة العربية السعودية لدورها الرئيسي والأساسي في موازنة القوى بين الدول وضمان الاستقرار في منطقة عانت زمنا طويلا من الأزمات والحروب قبل الاستفاقة من كابوس الإسلام السياسي الذي مازال للأسف يتهدد تونس، خسرت البلاد عددا من أحسن رجالاتها ومن أكثرهم فهما لمخاطر الحركات الإسلامية وهذا ما لا نتمنّاه صدقا لأشقّائنا في منطقة الخليج العربي. الأزمة اليوم ليست أزمة خليجيّة بل هي أزمة قطرية، وأزمة تواجه جميع حركات الإسلام السياسي في المنطقة وتبشر بسقوط هذه العناصر الشاذة التي تهدد وحدة الخليجيين وكافة الشعوب العربية. الوحدة لن تتحقق بوجود من يمارس الشقاق والنّفاق ومن يموله ويسانده عن طريق الهبات والقروض والمؤسسات التي روج لها كمؤسّسات خيرية وهي في حقيقة الأمر قنوات لتمرير السند المالي لجماعات الإسلام السياسي ولإنعاش أنشطتها السياسيّة والاجتماعيّة والإعلامية. ما نشهده اليوم في منطقة الخليج العربي مجموع متغيّرات إيجابية بدأت بالقطع النهائي مع سياسات قطر التحريضية؛ ولعلنا اليوم نشهد استعادة المملكة العربية السعودية لدورها الرئيسي والأساسي في موازنة القوى بين الدول وضمان الاستقرار في منطقة عانت زمنا طويلا من الأزمات والحروب. في سعيها هذا تحظى المملكة بدعم قوي من عدد من الدول العربيّة وعلى رأسها مصر التي عانت من حكم الإخوان وفهمت مخاطر الإسلام السياسي عن تجربة خلال السنة التي حكم فيها محمد مرسي وسيطر فيها مرشد الجماعة محمد بديع على جميع مؤسّسات الدولة. المملكة العربية السعودية تحظى أيضا بدعم الإمارات العربية المتحدة التي كانت ولازالت وجهة للعرب وفخرا لهم لما حققته من تقدم ورقي في جميع المجالات والتي لم تتوان يوما في نصح الإخوة العرب وفضح مخططات الإسلام السياسي ومخاطره. اليوم، وبقيادة تجمع بين رؤية الشباب الثّاقبة في شخص وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وحكمة الكبير والمحنّك الملك سلمان قد يتحقق ما تمنته الشعوب العربية منذ سنوات بتغيير المعادلة وخلق مساحة جديدة للإصلاح وتحقيق الاستقرار بعيدا عن اللغو والتخفي وراء مشاريع في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها ركوب على موجة الديمقراطيّة للسيطرة على دول عربية وخدمة للمصالح الضيقة لدولة قطر وخلاياها من تنظيمات الإسلامي السياسي. ولكل متحدث عن حرية الإعـلام آن يفهم أن الحرية مضبوطة بأخلاقيات ضرورية تنأى بالقطاع عن الدعوة للعنف والفتنة والقتل. ولكل متشدق بالديمقراطية وبالثورات أن يدرك أن الوقت قد حان ليستوعب أن لكل دولة تقاليدها وأعرافها ولكل شعب الحق في تقرير مصيره بعيدا عن الأموال الفاسدة والتدخّلات الخارجيّة والأجندات المشبوهة. بعد خمس سنوات ونصف السنة من المغالطة والصراعات التّي أنهكت المنطقة العربية، يأتي القرار الشجاع بالقطع مع سياسات قطر والتأسيس لمرحلة جديدة قد يتحد فيها العرب مجددا حول مشروع منطقة جديدة يتحقق فيها الإصلاح وتخلو منها مظاهر المشاحنة والدعوات التحريضيّة لشقّ الصفوف وبث الفتنة. كاتبة تونسيةإيمان الزيات
مشاركة :