بعد حملة الاعتقالات الأخيرة لم تعد الأسماء والألقاب مهمة ولم يعد لأموال فلان وعلاقات علان شفاعة أو قدرة على حمايتهم من طائلة القانون. العرب إيمان الزيات [نُشر في 2017/11/08، العدد: 10806، ص(6)] تعوّدنا في العالم العربي على التّغيير الذي يأتي نتيجة ضغط عنيف من القواعد الشّعبيّة في شكل ثورات وانتفاضات ولكنّ التغيير هذه المرّة أتى من أعلى الهرم ومن الحاكم نفسه في قطع تامّ مع المناهج القديمة التي حفظناها فكان ما أسمته بعض الصّحف العربيّة والأجنبيّة “عاصفة حزم ثانية” و”زلزالا” و”بركانا” سعوديّا. الحقيقة أنّ الأحداث الأخيرة في السعودية كانت مفاجأة قدّمت أنموذجا جديدا في هذه المنطقة التي لم نعتد على الجديد فيها وكنّا ومازلنا نجترّ مقولة “التاريخ يعيد نفسه”. اليوم وبعد كلّ الأحداث المتصاعدة التي انطلقت بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد برئاسة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وتواصلت بتحرّكات وأوامر ملكيّة طالت شخصيّات ومناصب حسّاسة بالمملكة، لنا أن نعمل على صياغة مقولة جديدة تتماشى مع وزن الأحداث والقرارات، “التّاريخ لا يعيد نفسه في المملكة العربيّة السعوديّة”. صار من الواضح أنّ المملكة تكتب تاريخا جديدا بإرادة سياسيّة لم تنتظر تحرّكات الشّارع وضغطه ولا انتفاضة على منظومات بالية تتخذ من آليّات التكرار والمناورة والتكيّف طوق نجاة قد يحفظ امتيازاتها لمدّة وإن قصرت. ما دفع البعض لوصف الأحداث الأخيرة في المملكة بـ”الزلزال” هو عدم القدرة على التوقّع أو التنبؤ بالتداعيات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة لمثل هذه الأحداث ونحن نعلم جيّدا أنّ انعدام الرّؤية قد يصيب العديد من المحلّلين السياسيين والخبراء بحالة من التخبّط في بحث عن إجابات غائبة. التغيّرات الأخيرة في المملكة توحي بأمر واحد: شجاعة غير مسبوقة في العالم العربي وإرادة سياسيّة قويّة قلما نرى مثيلتها حتّى في الدّول التي طالما تشدّقت بدعم الديمقراطية والمسارات الإصلاحية والرغبة في القطع مع الماضي قولا لا فعلا. في الخامس من نوفمبر، نجحت قرارات سعوديّة في تعرية الخطابات الشعبويّة واستراتيجيّات التّواصل والتّسويق السياسي. وأطلقت الرياض نهجا جديدا في التّعامل مع المشاكل الداخليّة وحتّى الخارجيّة وهو نهج يتركز على العمل والقرارات الحازمة بعيدا عن اللّغط والوعود الزّائفة. وهذا ليس بجديد كما يدّعي البعض. هو نهج بدا واضحا منذ مبايعة الملك سلمان بن عبد العزيز ملكا للمملكة العربية السعودية في الـ23 من يناير 2015 وصار أكثر وضوحا مع إسناد ولاية العهد للأمير محمد بن سلمان في الـ21 من يونيو 2017. وكان وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وصف التوجه “شديد المحافظة” للدولة السعودية بالدخيل على المملكة في حديث مع صحيفة الغارديان البريطانية الشّهر الماضي وقال إنّ ذات التوجّه لم يكن إلّا ردة فعل تجاه الثورة الإسلامية الإيرانية في السبعينات من القرن الماضي والتي لم تعرف القيادة السعودية آنذاك كيفية التعامل معها. وتوصيف وليّ العهد للوضع لم يكن خطابا شعبويّا ولا حتّى خطابا سياسيّا بل كان توصيفا دقيقا وشرحا لاستراتيجية جديدة تنأى بالمملكة عن التشدّد الديني والرّكود الثقافي والاقتصادي. ولعلّ الاستراتيجيّة الجديدة تحتاج لوجوه جديدة وسياق جديد وتتطلّب القطع التام مع زمن كانت تهيمن فيه الوجوه القديمة على رأس المنظومات السياسية والمالية والدينية في المملكة. وقد لمسنا ملامح هذه الاستراتيجية الجديدة مع الإعلان على خطّة ما بعد النّفط أو ما يسمّى بـ”رؤية السّعوديّة 2030” ومع إطلاق مشروعات حكومية عملاقة كمشروع نيوم ومشروع ميترو الرياض ومشروع مدينة جبيل الصناعية وخطة إنشاء مصانع محلية لتصنيع السلاح وخطة لصناعة السيارات في الداخل السعودي وخطط لإنشاء قطاعات محلية للترفيه السياحي إضافة إلى طرح أصول شركة أرامكو لتوفير إيرادات إضافية للخزينة ممّا سيعطي موارد جديدة لاستثمارات جديدة في المملكة. هذا على المستوى الاقتصادي أمّا على المستوى الاجتماعي فالإصلاح أيضا قائم والجهود حثيثة وقد بدأ ذلك باعتقال عدد من الدعاة المتشدّدين وتواصل العمل بفصل الآلاف من الأئمة من العمل في المساجد “بعد ثبوت نشرهم التطرف” بحسب تصريحات وزير الخارجيّة السعودي عادل الجبير. وتحديث الأنظمة في المملكة بات أمرا واضحا خاصّة بعد الإعلان عن مجموعة من القرارات الشّجاعة كرفع الحظر على قيادة المرأة للسيارة والسماح للنساء بدخول ملاعب كرة القدم وقرار إنشاء الهيئة العامة للترفيه. ما سبق ليس إلّا نزرا قليلا من الإصلاحات الداخليّة المتتالية في المملكة. لهذا من الممكن أن نعتبر الخطوة الجديدة بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد تكملة للمسار وخطوة تؤكّد على رغبة الإرادة السياسيّة في تطوير البلاد ودعم المشاريع الناشئة والتشجيع على الإبداع في المجتمع السعودي من خلال تمكين الشباب، ذكورا وإناثا، وتعزيز تقدمهم في القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعية والعلميّة والثقافيّة. والغريب في الأمر ليس قرار المملكة في تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد ولا حتّى في إصدار أوامر ملكيّة بإيقاف شخصيّات تورّطت في قضايا فساد وغسيل أموال. الغريب هو موقف بعض الذين يقدّمون أنفسهم كمصلحين وحقوقيّين ودفاعهم المستميت عن هذه الشّخصيّات وتشكيكهم في عمل الإرادة السياسيّة بعد أن كانوا في زمن غير بعيد من المندّدين بظاهرة الفساد وتفشّيها في المملكة. ولنقل بصراحة إنّ حملات التّشكيك في مثل هذه المرحلة لا يمكن أن تفهم إلّا كمحاولة لعرقلة جهود الإصلاح والبناء في المملكة. نحن نعلم جميعا أنّ كلفة الفساد باهظة جدّا فبالاستناد إلى تقرير نشر في 2016 من طرف إدارتي الشؤون القانونية والشؤون الماليّة العامّة لدى صندوق النقد الدولي تحت عنوان “تكاليف الفساد واستراتيجيّات التّخفيف” تبيّن أنّ التكلفة السنوية الإجمالية للرّشوة وحدها تتراوح بين 1.5 و2 تريليون دولار تقريبا. والمفزع أنّه من المرجح أن تكون التكاليف الاقتصادية والاجتماعية للفساد أكبر من ذلك لأنّ الرشاوى ليست إلّا شكلا واحدا من أشكال هذه الظّاهرة. هذه الكلفة لا تثقل كاهل المواطن فقط بل وتتسبّب في انعدام الثقة في الدّولة وإضعاف قدرتها على أداء وظائفها الأساسية. فالفساد يؤثّر على العوامل الدافعة للنمو العام والمحتمل ويضرّ بالاستقرار الاقتصادي والاستثمارات الداخليّة والخارجيّة. في ظلّ هذه المعطيات وبوجود الإرادة السياسيّة في المملكة والتي تطمح إلى إصلاح شامل وجذريّ، انطلقت الحملة ضدّ الفساد. وأثبتت الرّياض عبرها استعدادها التّام لرفع كلّ العراقيل والتحدّيات لبناء اقتصاد سليم يرتكز على تساوي الفرص. بعد حملة الاعتقالات الأخيرة، لم تعد الأسماء والألقاب مهمّة اليوم ولا حتّى المناصب ولم يعد لأموال فلان وعلاقات علان شفاعة أو قدرة على حمايتهم من طائلة القانون وهذا هو مضمون الرّسالة التّي وجّهتها القيادة السياسيّة في المملكة: القانون والقانون لا غير. هذه الرّسالة أزعجت الكثيرين من أعداء المملكة والمتربّصين بأمنها واستقرارها. هذه الرّسالة أيضا أخرجت المشككّين خارج اللّعبة وكشفت المطامع السياسيّة لبعض من أسموا أنفسهم حقوقيّين ومعارضين على غير وجه حقّ. كاتبة تونسيةإيمان الزيات
مشاركة :