ما لم يُعرف عن اتفاقية سايكس – بيكو (3-1)

  • 6/30/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يعقوب يوسف الإبراهيم| لا تزال ارتدادات أصداء ما كتب عن الاتفاقية الغبية، كما وصفها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج (1916 – 1922) قبل أكثر من ثمانية عقود في كتابه «الحقيقة وراء معاهدات السلام» تتفاعل طوال قرن انسلخ، وكأن الماضي ظل مراوحاً لا يريد أن يرحل أو يلوذ بذمة التاريخ، كذلك ما برحت الحكايات تتوالد عن الاتفاقية بوتيرة غير معهودة، منطلقة من مخيلات سكنها الهوس، وخليط من ضباب الأوهام وظلمات الأساطير، ما جعلها لا تلتزم بمادة معقولة يمكن الركون إليها والاستفادة من عبرتها.. ومما يزيد الطين بلة، أن من يكتب وينظّر قد لا يعرف عن دواخل الموضوع الا عناوينه، ولا يجتهد في كشف ما خفي منه مما تطفح به دفائن الوثائق، وتعج به كتب السير ومذكرات شخصيات لعبت أدواراً رئيسية في صياغة أحداثه وتفعيلها. كما لم نر في الأفق محاولةً لسد هذه الثلمة، التي أحدثتها سريان أفكار القتامة التي ألقت بظلالها على الذاكرة المتبلدة بغثاث التكرار والنمطية حتى تشربت عروقها بالجهل. وفي الأثر الشريف الذي جاء محذراً: «لاتشربوا من ثلمة فإنها مركب الشيطان». يرجح التفكير أن وزير الحرب البريطاني هوراشيو هربرت كتشنر كان الشخصية الأقوى تأثيرا في قرارات مجلس الوزراء ، بحكم خبرته الميدانية مع كل من فرنسا (حادثة فاشودا 1898)، وروسيا (حول الاتفاقية البريطانية الروسية في أغسطس 1907 لإيقاف الزحف الروسي على إيران) عبر المناصب العسكرية التي تقلدها في الهند و مصر والسودان خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان يرى أيضاً أن روسيا لن تهدأ لإثارة العوائق أمام بريطانيا كما أثبتت الوقائع في أكثر من موقع ووقت، وهو جزء من العداء المدفوع بأطماع اللعبة السياسية الكبرى بين بريطانيا من جهة، وروسيا وفرنسا من جهة أخرى، لذا فقد أصاب الذعر حكومة القيصر بعد إعلان بريطانيا عزمها على تنفيذ حملة الدردنيل، حيث تراءت لها إمكانية سقوط أسطنبول في حضن بريطانيا، ما يبعدها عن تحقيق أحلامها في القسطنطينية ومضائقها غربا، وفي احتلال جنوب العراق وفصل البصرة مبدئيا، ما يعزز نفوذها في جنوب إيران خاصة، وعموم سياستها تجاه روسيا عامة. إخفاقات ولكن إخفاقات بريطانيا خلال عام 1915، سواء فشل حملة الدردنيل وحصار قواتها في الكوت وأسر قائدها الجنرال تاوسند وعشرات الألوف من جيشه، على الرغم من أن روسيا سبق أن أستنجدت قبيل ذلك ببريطانيا، بفتح جبهات تخفف عنها الضغط الذي وقعت فيه أمام تركيا، في جبهات القوقاز وأرضروم وطربزون، ولكنها عادت حينما تغيرت الأمور على جبهات القتال بمطالباتها المستمرة، وقد أثبتت الحوادث أرجحية تفكير كتشنر الذي أظهره لقاء جرى بين قيصر روسيا نيقولا الثاني والسفير الفرنسي في روسيا، في الأول من مارس 1915 «يبدو أن القسطنطينية ستصبح تحت إدارة عالمية، وأن روسيا لن ترضى بأقل من أن تكون (القسطنطينية) ومضايق البسفور ضمن حدود الإمبراطورية الروسية»، ما يعني أن تكون روسيا هي أول من أثار موضوع تقاسم الأمبراطورية العثمانية تبعا للأجندة التي وضعها سلفه القيصر نيقولا الأول عام 1844، الذي أطلق تسمية تركيا بـ«الرجل المريض». ذهول فرنسي أصيبت فرنسا بذهول كبير جرّاء المخطط الروسي نحو أسطنبول، ما يعني منافستها في البحر الأبيض المتوسط، حيث كانت فرنسا كما صرح بذلك جورج لايجوس وزير الحربية آنذاك ورئيس الوزراء لاحقاً، وردد صداه تأييد مجلس النواب في 10 مايو 1915: «إن محور سياسة فرنسا في البحر الأبيض المتوسط تستقر على الجزائر وتونس والمغرب في الغرب (وكلها كانت تحت الهيمنة الفرنسية) وطرفه الثاني في سوريا ولبنان وفلسطين». ورغم كل ذلك التمسك فإن ضغوط اشتداد القتال في جبهاتها الغربية قد أجبرت وزير خارجية فرنسا على الاقتراح على روسيا أن تؤخر نقاش مثل هذه السيناريوهات إلى ما بعد انتهاء الحرب في مؤتمر السلام الذي سوف يعقبه الحديث والنقاش في الأمور المستقبلية. حاجز وقائي أما بريطانيا فقد تبنت في هذا المنعطف إستراتيجية كتشنر، بأن يضع فرنسا كحاجز وقائي بينها وبين روسيا، يمثل حصة فرنسا من التقسيم، الذي يشمل مطالبتها بالموصل وسوريا وسليسيا (لواء الأسكندرونه)، التي يرمز لها على الخرائط F1 ــ F2. وكان لوزير خارجية بريطانيا السير إدوارد جراي رأي استباقي آخر، جاء في ضوء تقرير كتشنر إلى مجلس الوزراء بتاريخ 15 مارس 1915، وقبله رسالته في 14 نوفمبر 1914، وهو أن تسعى بريطانيا إلى تأسيس دولة عربية بتأييد ورعاية بريطانية في الأجزاء العربية الواقعة ضمن الدولة العثمانية. وأمام اتفاق آراء أعضاء مجلس الوزراء البريطاني، وقبله ضغوط مطالبات روسيا وفرنسا، جاء قرار رئيس الوزراء أسكويث تأسيس لجنة عليا مستقلة دائمة بمعزل عن حكومة الهند، لجمع وتدقيق الوثائق والخرائط الصادرة بخصوص متعلقات أقطار تركيا الآسيوية عبر مجلس الوزراء، أطلق عليها مسمى «لجنة تركيا الآسيوية»، لتقديم التصورات والنصح لتخطيط مستقبل ما قد يتم في حال الانتصار، ومآل تلك الأقطار إزاء التوقعات المستقبلية وأمنيات بريطانيا، وتشخيص حصتها من تركة الدولة العثمانية في الجزء الآسيوي. وأعطيت رئاسة اللجنة إلى السير موريس دي بونسين، السفير البريطاني الأسبق في مدريد ثم فيينا، وضمت اللجنة وكيل وزير الخارجية السير جورج كلارك، والسير توماس هولدرنس عن حكومة الهند، وعن وزارة البحرية الأدميرال جاكسون، وعن وزارة الحرب الجنرال كاويل، وعن وزارة التجارة السير سميث، وأعطيت سكرتارية اللجنة إلى سكرتير مجلس الوزراء السير موريس هانكي. مارك سايكس وبما أن وزير الحربية الفيلد ــ مارشال كيشنر هو الأكثر إلماماً بالتفاصيل، فقد منحت له مهمة الإشراف المباشر على ما سيحدث خلال اجتماعات اللجنة من تصورات، فعين عضواً ينقل إليه تفاصيل الاجتماعات يوماً بيوم، هو عضو مجلس العموم منذ عام 1911، السير مارك سايكس، الذي اختير على أساس أنه أكثر أعضاء مجلس العموم خبرة ومعرفة بالشأن العثماني، نتيجة لسفراته المتكررة إلى تركيا أيام صباه مع والده، منذ عام 1850، وعمله في السفارة البريطانية في أسطنبول ملحقاً فخرياً 1905، وكان قد كتب مجموعة من الكتب والتقارير عن الدولة العثمانية، والذي رشحه سكرتيره ومعاونه الخاص الكابتن أوزولد فيتزجيرالد. ابتدأت اجتماعات لجنة تركيا الآسيوية (التي أطلق عليها في أروقة الحكومة ودوائرها اسم «لجنة دي بونسين»، نسبة إلى رئيسها حتى طغت التسمية على المسمى الرسمي) للمرة الأولى في 14 أبريل 1915، وتبعتها اجتماعات يومي 15 و16، وتم الاجتماع الرابع والأخير في 17 أبريل، ثم تفرغت اللجنة لتقديم تقرير استغرق إعداده أكثر من شهرين، عندما كانت توقعات الانتصار في حملة الدردنيل، وعمليات الزحف نحو بغداد صيف 1915 في أوجها، فقدم التقرير إلى مجلس الوزراء في 30 يونيو، بعنوان «أهداف المجهود الحربي البريطاني في تركيا الآسيوية». جولة وانتقادات في ضوء ذلك، وافق مجلس الوزراء على ابتعاث سايكس إلى تلك المنطقة، في جولة استقصاء للحقائق استغرقت ستة أشهر، يصحبه سكرتير خاص هو سارجنت ويلسون، ومترجم سوري هو أنطوان البنا، وكانت الرحلة عبر إيطاليا إلى نابولي ثم بمدمرة بحرية إلى سالونيكا، صوفيا، ثم الدردنيل والقاهرة، حيث أقام فيها لمدة أسبوع، وبعدها إلى عدن لمقابلة بعض أسرى الحرب، ومنها إلى الهند، لكن اجتماعه مع نائب الملك في الهند اللورد هاردنغ لم يكن ناجحاً، والذي بدوره كتب تقريراً إلى لندن يقول فيه: «إن إرسال دبلوماسيين غير ناضجين مثل مارك سايكس أمر غاية في الخطورة بسبب عدم لياقتهم وخفتهم، كما عبر أيضاً عن ذلك الى الصحافي فالنتين شيرول مراسل جريدة التايمز اللندنية بقوله «ان سايكس معتد بنفسه أكثر من اللازم». وكان رأي اللورد هاردنغ مندوب الملك في الهند أن بعض أجزاء الدولة العثمانية غير جاهزة لإدارة أمورها أو استقلالها، وهذا الرأي يناوئ فكرة تأسيس الدولة العربية التي تبناها كتشنر. ومن الهند وصل الى البصرة في سبتمبر 1915، وأقام لمدة قصيرة مع أرنولد ويلسون مساعد الحاكم السياسي السير بيرسي كوكس، الذي قال عن سايكس «حتى عمومياته ليست دقيقة». أحب سايكس البصرة ووصفها بأنها «مبهجة الالوان مثل ماء النهر الأزرق، يشوبه صفار، ويجري بين نخيل لونه أخضر زيتي، تحفة، سماء زرقاء وبيوت وردية صفراء والعرب السمر يقودون قوارب مثل الجندول». وقد انتقد تصرفات سايكس زميل له عضو في مجلس العموم، هو الكابتن جورج لويد، الذي زار البصرة بعد سايكس بمدة قصيرة فقال «إن تصرفات سايكس كانت من دون ذوق، ولم يكن ذلك لأنه انتقد بشدة عمل كل من قابله، بل إنه شديد الكره لكل عمل تقوم به حكومة الهند، ما جلب سخط الجميع». بعدها عاد إلى القاهرة في 17 نوفمبر ومنها إلى لندن التي وصل اليها قرب منتصف ديسمبر 1915. جورج بيكو خلال فترة غياب سايكس في رحلته هذه بدأت اتصالات للتشاور مع فرنسا في اكتوبر 1915، حيث دعا وزير الخارجية البريطاني إدوارد جراي سفير فرنسا في لندن بول كامبون للاجتماع والتداول الدوري لمستجدات الساحة السياسية في ضوء مخرجات جبهات القتال المشتركة ضد ألمانيا، فأثمر ذلك الاجتماع ان ينتدب السفير الفرنسي ممثلاً دائماً لفرنسا في لجنة دي بونسين حرصا على استمراريتها، فوقع الاختيار على دبلوماسي فرنسي بدرجة قنصل حديث التعيين بلندن منذ أغسطس 1915 فرنسوا-ماري جورج بيكو، وكان يتقن الانكليزية، وذا خبرة بالعمل في السلك الدبلوماسي، وكان قد شغل منصب قنصل عام في بيروت في يونيو 1914 قبيل اندلاع الحرب. توافق وصداقة عقد في 23 نوفمبر 1915 اول لقاء له مع اللجنة التي كانت برئاسة وكيل وزير الخارجية السير أرثر نيكلسون بدلاً من دي بونسين، ولكنه لم يكن اجتماعاً متكافئاً، ولم يثمر عن نتيجة مشجعة. على إثر ذلك، غادر بيكو إلى باريس للتشاور وأخذ التعليمات المناسبة لوجهة النظر الفرنسية. وشهد الاجتماع الثاني والأخير في 11 ديسمبر صداماً صاخباً مع بيكو الذي وصفه نيكلسون: «بالتعالي والتعصب والغرور والنظرة الاستعمارية البحتة لمصالح فرنسا، وربطها بحالة فاشودا في 19 سبتمبر 1898»، والتي كادت تصل إلى اشتباك مسلح بين بريطانيا وفرنسا. فتوقفت أعمال اللجنة وانقطع الاتصال مع بيكو، فحوّلت وزارة الخارجية بناء على توصية وكيلها رئيس اللجنة ملف المتابعة إلى كتشنر لأنه صاحب الفكرة بالأساس. وفي النهاية، فإن رضاه مربوط بأن تحقق ما يرى. فقام بتغيير اللجنة المكونة من 18 عضواً إلى لجنة ثنائية مصغرة أوكلها إلى سايكس، الذي عاد إلى لندن في منتصف ديسمبر، وقدّم تقريره عن رحلته في 16 منه، فتسلم سايكس مهمة التكليف، وتم أول اجتماع له مع بيكو في 21 ديسمبر في السفارة الفرنسية بلندن، واستمرت الاجتماعات الدورية يومياً، تلتها صداقة ودية بين الاثنين امتدت طوال فترة الحرب. وجراء ذلك، أصبحت التسمية لجنه سايكس- بيكو واشتهرت الاتفاقية بهذا الاسم الشائع، وإن لم يكن اسمها الرسمي. أما أسباب توافق الاثنين وكسر الجليد بينهما، فيرجع إلى أسباب شخصية عدة، منها التقارب في السن والوظيفة، وكون سايكس من محبي الفرنسية (الفرانكوفونية)، ويجيد التحدث بها، وعاش في فرنسا ويعرف عادات أهلها، كما أنه كاثوليكي المذهب، وليس له خلاف أو معارضة إزاء التبشير الكاثوليكي في سوريا ولبنان، وعلى معرفة ببلدان الشرق الأوسط التي زارها مرات عدة كزميله، كما أن قبوله بأن تكون الاجتماعات في السفارة الفرنسية نال الرضا واعتبر نوعاً من التنازل، عوضاً عن أجواء بريطانية رسمية صارمة. وثمة تشابهات أخر، كلمسات كتشنر الدبلوماسية، كما حدثت في فاشودا، عندما قابل القائد الفرنسي مرشان في 19 سبتمبر 1898 بزي عسكري مصري، وليس ببزة عسكرية بريطانية. فاستطاع أن يحول الموقف من مواجهة وموضع قتالي بين فرنسا وبريطانيا إلى جلسة تبادل وجهات نظر. وساعد في ذلك أيضاً تمكن كتشنر من التحدث باللغة الفرنسية بطلاقة، مما جعلها في النهاية جلسة شرب أنخاب ورفع أعلام جنباً إلى جنب. ولادة الاتفاقية كان سايكس يرفع تقارير يومية إلى كتشنر ويتلقى أوامره وينفذ ملاحظاته عن طريق معاونه الشخصي الكولونيل فيتزجيرالد، وقد علّق سايكس على ذلك «لا أستطيع أن أشرح له ما أود، ولا بإمكاني معرفة ما إذا كان يتقبل ما أقول، وقد يكون لا يعرف ما أريده». واستمرت الأمور على تلك الشاكلة حتى 3 يناير 1916، حتى صيغت مبادئ الاتفاقية، التي ضمت الخرائط المقترحة العائدة لها، فوافقت الحكومة البريطانية عليها في 4 فبراير، تبعتها فرنسا في 17 مارس، بعدها سافر سايكس إلى بتروغراد عاصمة روسيا القيصرية بحراً، في أوائل مارس عن طريق استوكهولم، وقابل القيصر في 7 مارس، حيث دعاه إلى مأدبة، وأنعم عليه بوسام سانت ستانيسلس بدرجة قائد. وفي 10 مارس، التحق به بيكو، حيث اجتمعا بوزير الخارجية سيرغي سازنوف. وبعد مداولات وتعديلات، تم التوقيع عليها في 26 أبريل 1916، وبعد بضعة أسابيع وقّع عليها وزير الخارجية البريطاني السير أدوارد غراي، والسفير الروسي الكونت بيكدوف، في 9 مايو. وأخيراً، وفي 16 مايو، اختتمت بتوقيع وزير الخارجية غراي، والسفير الفرنسي في لندن بول كامبون، فأصبحت تلك الوثيقة التى تحمل الاسم الرسمي: «الاتفاقية الأنغلو- فرنسية- الروسية، أبريل/ مايو 1916» نافذة المفعول، واشتهرت عند العامة باتفاقية سايكس – بيكو.   «إن إرسال دبلوماسيين غير ناضجين مثل مارك سايكس  أمر في غاية الخطورة بسبب عدم لياقتهم وخفتهم». «إن إرسال دبلوماسيين غير ناضجين مثل مارك سايكس  أمر في غاية الخطورة بسبب عدم لياقتهم وخفتهم».(هاردنج نائب الملك في الهند)   ديفيد لويد جورج السير مارك سايكس توقيع سايكس ــــــ بيكو على اسفل خريطة توضح تقسيم الشرق الأوسط

مشاركة :